مطالبة الصين باستعادة سيادتها على تايوان سابقة على ولادة صناعة أشباه الموصلات بعقود
كثيراً ما يقدَّم إصرار الصين على استعادة سيادتها على تايوان على أنه دليل على نياتها التوسُّعية والعدوانية، الرامية أساساً إلى وضع يدها على صناعة أشباه الموصلات الحيوية بالنسبة إلى تطوّرها التكنولوجي والاقتصادي. صحيح أن الجزيرة تحتلّ الموقع الأوّل كمنتِج للرقائق الإلكترونية، إذ تقوم أبرز شركاتها العاملة في هذا المجال، «TSMC»، بصناعة ما يوازي نسبة 52% من مجمل تلك المنتَجة عالمياً، غير أن مطالبة الصين باستعادة سيادتها على تايوان سابقة على ولادة الصناعة المذكورة بعقود، فهي لم تتوقّف منذ وصول الشيوعيين إلى السلطة في 1949، وكان احترام مبدأ «صين واحدة» من قِبَل الولايات المتحدة، مع ما يعنيه من امتناعها عن تشجيع أيّ نزعة انفصالية في الجزيرة، من بين مرتكزات التقارب بين واشنطن وبكين. تايوان، بوضعها الحالي، ما زالت تَرمز، من منظور الصين، إلى «قرن المَهانة» الذي امتدّ من أواسط القرن التاسع عشر إلى 1949، بسبب الحروب التي شنّها الغربيون واليابانيون عليها، وإخضاعها لهيمنتهم. استعادة الصين لوحدتها الترابية تعني طيّ صفحة هذه المرحلة المُظلمة التي عانى الشعب الصيني من مراراتها. غير أن اعتبارات استراتيجية، إضافة إلى تلك الرمزية، تُفسّر حزم بكين بشأن تايوان.
يقول تيد غالين كاربنتر، الباحث الرئيسي في شؤون الدفاع والسياسة الخارجية في معهد «كاتو »الأميركي، والذي كان سبّاقاً منذ 2005 في التحذير من «حرب أميركا القادمة مع الصين بسبب تايوان»، وهو عنوان كتابه الصادر آنذاك، إن أحد الشروط الرئيسة للحؤول دون مِثل هذا الاحتمال، هو تخلّي الولايات المتحدة عن اعتبارها تايوان «حاملة طائرات أميركية غير قابلة للغرق». ففي مقال بعنوان «تايوان يجب أن تصبح نمساً شرق آسيا» على موقع «ذي ناشيونال إنترست»، يرى غالين كاربنتر أن الحلّ الوحيد لمنْع الصدام بين القوّتَين العظميَين، والحفاظ على دور تايوان الحيوي بالنسبة إلى الاقتصاد العالمي، هو موافقتهما على تحييد الجزيرة وفقاً لـ«النموذج النمسوي». فبعد الحرب العالمية الثانية، ووقوع أراضي النمسا تحت سيطرة المنتصرين فيها، من غربيّين وسوفيات، تَوافق هؤلاء على أن يُعاد توحيدها، ولكن على قاعدة حيادها الكامل في النزاع بين المعسكرَين الرأسمالي والاشتراكي، وهو حياد كرّسته معاهدة 1955. يستبعد الباحث، لدواعٍ قومية بديهية، أن تُوافق الصين على مثل هذا الاقتراح، لكن اللافت هو ما يعتقده بخصوص دوافع الولايات المتحدة إلى رفضه. فتايوان «هي مكوّن أساسي في استراتيجية الحفاظ على الهيمنة الأميركية في شرق آسيا. فبفضْل موقعها الجغرافي وحده، تستطيع أيّ قوّة أجنبية تسيطر عليها احتواء القوّة العسكرية الصينية، وخاصة البحرية، وراء الخطّ الأول من الجُزر»، أي بكلام آخر، محاصرة الصين ومنعها من التمدّد نحو المحيطَين الهادئ والهندي. يقرّ غالين كاربنتر بأن الولايات المتحدة، إذا ارتضت تغيير سياستها ووافقت على تحييد تايوان، فستكون قد وافقت على تحوُّل الصين إلى قوّة رائدة في هذه المنطقة.
كان زبيغنيو بريجنسكي قد نصح في آخر كتاب له، «رؤية استراتيجية»، النُخبة السياسية الأميركية بإدراك استحالة احتفاظ بلادهم بهيمنتها الأحادية، والقبول بنوع من تنظيم تراجُعها بالتوافق مع القوى الأخرى الصاعدة، والاعتراف بمناطق نفوذ خاصة بها في جوارها الإقليمي، مع الاحتفاظ بالموقع الريادي لواشنطن، ولكن على قاعدة أن تكون «أُولى بين متساوين». كَتب هذا الكلام في 2010، ولم يلقَ آذاناً صاغية لا من باراك أوباما، الذي كان رئيساً حينها، ولا مِمّن تلاه. الإصرار على الهيمنة الأحادية، وعلى احتواء القوى الصاعدة وحصارها، قاد إلى صدام في أوكرانيا، من المحتمل أن يتوسّع، ويقود إن آجلاً أو عاجلاً، إلى صدام آخر في مضيق تايوان.