سيكون الاحتفال غداً بذكرى فشل الانقلاب العسكري ضدّ الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، عام 2016، ناقصاً. ذلك أن توجيه السهام إلى مَن اتُّهموا بالوقوف وراء المحاولة، لم يَعُد ممكناً، بل إن الحاجة إلى مساعداتهم تبدو أهمّ من أيّ شيء آخر. كما أن الخوف من أن يكون الاحتفال بالمناسبة هو الأخير، يبدو جاثماً على صدور أنصار «حزب العدالة والتنمية»، في ضوء استطلاعات الرأي المخيّبة لتوقّعاتهم، والتي تتنبّأ بهزيمة إردوغان في الانتخابات الرئاسية التي ستُجرى في حزيران من العام المقبل. بعد ستّة أعوام من محاولة الانقلاب، باتت صورة العلاقات الخارجية لتركيا مختلفة بالكامل. وإذا استثُنيت سوريا واليونان، فإن بيكار العلاقات دار دورة كاملة مع ثلاثة أطراف أساسية في المنطقة هي الكيان الصهيوني والسعودية والإمارات، فيما ثمّة محاولات غير محسومة النجاح لتطبيع العلاقات مع مصر.كانت تركيا تَنظر عام 2016 إلى محمد بن زايد، وليّ عهد الإمارات حينها ورئيسها الحالي، على أنه الرأس المدبّر والمموّل لمحاولة الانقلاب، فيما قالت وسائل إعلام «العدالة والتنمية» فيه ما لم يسبق أن قيل تجاه أحد من خصوم إردوغان. ولم توفّر هذه الوسائل السعودية ودولاً خليجية أخرى من مسؤولية دعم الانقلاب، على الرغم من أن الملك السعودي، سلمان، اتّصل، ولو متأخّراً بعض الشيء، بإردوغان، مهنّئاً إيّاه بإفشال المحاولة. هكذا، بدا أن سدوداً عالية وسميكة قد ارتفعت بين تركيا وتلك الدول. وإلى حدث الانقلاب، أضيفَت واقعة اغتيال المعارض السعودي، جمال خاشقجي، في القنصلية السعودية في إسطنبول، لتدْفع بالعلاقات بين أنقرة والرياض إلى ذروة توتّرها، خصوصاً مع اتّهام إردوغان شخصياً، محمد بن سلمان، بالوقوف وراء الجريمة. وعلى إثر ذلك، شهدت العلاقات بين البلدين أوسع مقاطعة وتشهير في تاريخهما.
لكن الدولاب دار دورته، ودفع بكلّ الأطراف إلى مراجعة حساباتها، ليتمّ الاتفاق على البدء بمرحلة تطبيع لم تستغرق طويلاً، وانتهت في أقلّ من سنة. فتركيا، ولا سيما مع تدهور الوضع الاقتصادي وتراجع حظوظ إردوغان الرئاسية، شعرت بالحاجة الماسّة إلى تحسين اقتصادها، الذي كان تراجُعه من أهمّ أسباب انفضاض نسبة مهمّة من المؤيّدين مِن حَول إردوغان. ومن هنا، أتى استعداد الأخير لـ«العفو» وطيّ صفحة الخلاف مع كلّ من الإمارات والسعودية، من أجل إتاحة تدفُّق المال الخليجي إلى تركيا، سواءً في شكل مساعدات نقدية أو استثمارات أو ودائع وما شابه. ولا يستطيع الرأي العام التركي، حتى الآن، أن يجد سبباً آخر للتطبيع مع الإمارات والسعودية مقابل طيّ صفحتَي الانقلاب وخاشقجي، سوى حاجة إردوغان إلى المال، علّه يسهم في إعادة رفع نسبة التأييد له وحظوظه في البقاء في السلطة لسنوات خمس إضافية. أمّا العلاقات مع اسرائيل، فقد شهدت تدريجياً تطبيعاً واضحاً، أثمر في الآونة الأخيرة زيارة للرئيس الإسرائيلي، إسحاق هرتزوغ، إلى أنقرة، وكلّ ذلك في مقابل تخفيف الضغوط عن تركيا مباشرة أو بشكل غير مباشر. ووصلت التنازلات التركية حدّ وصف إردوغان إحدى العمليات الفدائية في الضفة الغربية في الأوّل من نيسان الماضي، بأنها «عمل شنيع وإرهابي».
تعاني تركيا من أسوأ ضائقة اقتصادية بلغ التضخُّم فيها أكثر من 170 في المئة


ومن بين الدول التي توتّرت العلاقات معها أيضاً بسب محاولة الانقلاب، الولايات المتحدة. فالرئيس الأميركي الأسبق، باراك أوباما، تأخَّر كثيراً في الاتصال بإردوغان للاطمئنان عليه، فيما اتّهم الأخير الإدارة الأميركية بأنها كانت ضالعة في المحاولة من خلال دعمها المجموعة العسكرية التي قامت بها، والتي قيل بأنها أداة بيد الداعية الديني، فتح الله غولين، المقيم في ولاية بنسلفانيا الأميركية. وإذا أمكن القول إن ذيول التوتّر بين أنقرة وكلّ من الرياض وأبو ظبي قد زالت إلى حدّ كبير، فإنها مع البيت الأبيض بقيت في جانب كبير منها حتى الآن. فالولايات المتحدة لا تزال ترفض تسليم غولين إلى تركيا، كما أن الرئيس الحالي، جو بايدن، أعرب، في أكثر من مناسبة، عن حقيقة أنه لا يكنّ احتراماً لإردوغان، ويسعى للإطاحة به، فضلاً عن أنه كان نائباً للرئيس أوباما أثناء محاولة الانقلاب. وعلى الرغم من لقاءات متعدّدة بين الرجلين، فهما لم يتّفقا على حلّ العديد من القضايا الخلافية، ولا سيما العلاقات التركية مع روسيا، وصفقة «أس 400» الروسية، واستمرار الدعم الأميركي لـ«وحدات الحماية الكردية» في شمال شرقي سوريا رغماً عن إرادة تركيا. ولم يقدّم الموقف الحيادي التركي بين روسيا وأوكرانيا ما يرضي الولايات المتحدة، فيما موافقة تركيا على انضمام السويد وفنلندا إلى «حلف شمال الأطلسي» لم تأتِ لأنقرة بفوائد ملموسة، خصوصاً أن الموافقة حصلت، وفقاً للإعلام التركي، بعد ضغوط من بايدن على إردوغان. وهذا قد يكون مؤشّراً إلى أن العلاقات لم تستقم بعد، ولذا يواصل إردوغان «اللعب على الحبلَين»، من خلال تعميق التواصل مع عدوَّي واشنطن، إيران وروسيا، في القمّة التي ستجمع رؤساء الدول الثلاث في طهران في الـ19 من الشهر الجاري.
في الذكرى السادسة لانقلاب 25 تموز، تَحضر أكبر محاولة لتغيير هوية النظام السياسي والاجتماعي وربّما الجغرافي لتركيا. فقد استغلّ إردوغان المحاولة لتصفية جميع أتباع أو مَن يظنّ أنهم أتباع فتح الله غولين في الإدارات العامة وفي القطاعات التربوية والعسكرية. كما استغلّ الوضع في إقصاء خصومه كافة، سواءً من جماعة غولين أو من غيرها، ليبلغ عدد المعتقلين عشرات الآلاف، ويُزجَّ في السجون بعدد كبير من الصحافيين وأساتذة الجامعات والكتّاب. ولم تكتفِ سلطة «العدالة والتنمية» بذلك، بل عمدت إلى إجراء تعديلات دستورية واسعة جدّاً في عام 2017، حوّلت النظام من برلماني إلى رئاسي انتُخب بموجبه في العام التالي (2018) إردوغان رئيساً للجمهورية، وأُلغي منصب رئيس الحكومة، وتحوَّل البرلمان إلى مؤسّسة محدودة الصلاحيات، وبات الرئيس هو الحاكم المطلَق من دون حسيب أو رقيب. ورافقت تغييرَ النظام السياسي حملةٌ منظّمة واسعة لتهشيم صورة مصطفى كمال أتاتورك، وتصوير العلمانية على أنها من شرور «العهد البائد»، واتّهام أتاتورك بأنه «تخلّى» عن حدود سيادية لتركيا، عندما وقّع عام 1921 اتفاقية الحدود الخاصة بسوريا مع فرنسا المنتدَبة، وتخلّى عن كلّ الأراضي الواقعة في شمال سوريا ومِن بَعدها شمال العراق، والتي عُرفت بحدود «الميثاق الملّي». واستعادة هذه الحدود كانت، منذ ما بعد محاولة الانقلاب عام 2016، في أساس مغامرات إردوغان العسكرية في مناطق الشمال السوري من إدلب وعفرين وجرابلس إلى شرق الفرات، وتهديده الآن بالقيام بعملية عسكرية خامسة لاحتلال منبج وتل رفعت وما تَيسّر له. وتبدو سوريا على أنها الدولة الأكثر تَضرُّراً من سياسات إردوغان، الذي عرف كيف يجد الطريق الطويلة جدّاً إلى الرياض وأبو ظبي، لكنه لم يجد بعد الطريق الأقصر إلى دمشق، ليترك في جسد العلاقات التركية - السورية جروحاً وندوباً يصعب محوها في المقبل من العقود.
أيضاً، تأتي الذكرى هذه السنة، فيما تركيا تعاني من أسوأ ضائقة اقتصادية بلغ التضخُّم فيها أكثر من 170 في المئة، وفقدت الليرة التركية أكثر من مئة في المئة من قيمتها، وارتفعت الأسعار بشكل جنوني. وأظهرت الدراسات أن الشعب التركي لا يسبقه في العالم لجهة الشعور بالغضب سوى الشعب اللبناني. كلّ هذا كان يضرب الجانب الذي مثّل مصدر قوة لإردوغان، وليس غريباً والحال هذه أن تتآكل شعبية الرجل لتصل إلى أدنى مستوياتها منذ عام 2002، حيث أعطت الاستطلاعات إردوغان بحدود 30-32 في المئة، بعدما كانت 45 في المئة على الأقلّ في آخر انتخابات. ومع ذلك، فإن خسارته الانتخابات الرئاسية المقبلة مشروطة باتفاق المعارضة على مرشّح واحد مشترك والتزام قواعدها الانتخابية بالاقتراع له. أمّا الأطراف الخارجية، فسيتوجّب عليها أن تنتظر عاماً آخر لمعرفة مآل العلاقة مع تركيا، علماً أن من بينها مَن يريد لإردوغان البقاء في السلطة ومنها من يتمنّى له الرحيل. وعليه، فإن العام المقبل سيكون حافلاً بأحداث كثيرة ومفصلية، بالنظر إلى أن تركيا مع إردوغان شيء، ومن دونه شيء آخر. وكما ألغى عدنان مندريس في عام 1955 الاحتفال سنوياً بـ«عيد لوزان» نكاية بأتاتورك، فهل يكون احتفال 15 تموز هذا العام هو الأخير في تركيا؟