لإدراك حجم الهزيمة التي مُني بها الرئيس الفرنسي ومشروعه السياسي، يكفي التأمّل في العناوين المختارة من قِبَل الصحف الفرنسية على اختلاف توجّهاتها: هي «صفعة» بالنسبة إلى «ليبراسيون»، و«تصويت عقابي» بنظر «لوموند» - وكلتا الصحيفتَين محسوبتان على يسار الوسط -، و«زلزال» برأي «ليزيكو» القريبة من أوساط الشركات الكبرى وعالم الأعمال، و«تحدٍّ يجعل من فرنسا بلداً غير قابل للحُكم» وفقاً لـ«لوفيغارو» اليمينية. في حالات كثيرة، لا يعكس التصويت في الانتخابات الرئاسية تماهياً للناخبين مع برنامج المرشّح الذي منحوه أصواتهم. هم قد يصوّتون لصالح المرشّح الذي يعتبرونه الأقلّ سوءاً، كما فعل عدد واسع منهم خلال الانتخابات الرئاسية الفرنسية الأخيرة، لمنع منافسه المُصنَّف أشدّ خطراً، من الوصول إلى السلطة. قد يختارون أيضاً الإعراب عن غضبهم حيال النُّخبة السياسية التقليدية عبر التصويت الاحتجاجي لمرشّح آتٍ من خارج نادي «أحزاب الحُكم»، ويُعرف على أنه تهديد لحُسن سير النظام الديموقراطي العتيد، وخارج عن قيمه ومبادئه. غير أن التصويت في الانتخابات التشريعية، وكذلك البلدية، لا يأتي كنتيجة لـ«مزاج سياسي» ظرفي، قابل للتَّغيّر في حال تحسُّن الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية مثلاً. الأحزاب التي تحصد أصوات الناخبين في مثل هذه الانتخابات هي تلك التي نجحت في إقناعهم بتطابق خياراتها السياسية والاقتصادية - الاجتماعية، مع مصالحهم وتطلّعاتهم العميقة. هي دليل على تجذّرها في الواقع الاجتماعي وقدرتها على تشكيل حاضنة حقيقية.
(أ ف ب )

بهذا المعنى، عزّزت نتائج الانتخابات التشريعية الفرنسية الاتّجاه الذي ظهر خلال تلك الرئاسية، وسِمَته الأساسية تبلوُر ثلاثة أقطاب متناقضة في برامجها: «الاتحاد الشعبي» كممثّل لليسار الجذري، و«التجمّع الوطني» كممثّل لليمين المتطرّف، و«معاً»، وهي كتلة ماكرون الانتخابية، والتي تعبّر عن يمين الوسط. خيّبت هذه النتائج آمال الأخير في تحقيق أغلبية مطلقة في البرلمان، أي 289 مقعداً، إذ لم يحصل سوى على 224 نائباً، بينما استطاع «الاتحاد الشعبي» بقيادة جان لوك ميلانشون الفوز بـ149 مقعداً، و«التجمّع الوطني» برئاسة ماريان لوبين بـ89 مقعداً. سيضطرّ إيمانويل ماكرون للدخول في مفاوضات صعبة مع نواب بقايا اليمين التقليدي، «الجمهوريون» أساساً، الذين يتقاطعون مع جزء من توجّهاته السياسية والاقتصادية، ليحاول وضع برنامجه الانتخابي موضع التنفيذ. غير أن المؤكّد، نظراً إلى موازين القوى في البرلمان الجديد، ومعارضة اليسار الجذري واليمين المتطرّف، كلّ انطلاقاً من رؤاه، لوصفات ماكرون النيوليبرالية وحرصه على الانسجام مع السياسة الأميركية، أنه سيواجه مقاومة جدّية لمخطّطاته ومبادراته «الاستعراضية» برأي القطبَين المناوئَين. ولا شكّ في أن ارتفاع معدّلات التضخم وتأثيراته على مستويات معيشة الفرنسيين، وكذلك تدهور الخدمات العامة وأزمة قطاعَي الاستشفاء والتعليم، هي جميعها عوامل سيفضي تضافرها إلى موجات واسعة من الاحتجاجات والاضطرابات الاجتماعية، ستُوظَّف سياسياً من قِبَل خصوم «الماكرونية» لإحباط مشاريعها في الداخل كما في الخارج.
سيواجه ماكرون مقاومة جدّية لمخطّطاته ومبادراته «الاستعراضية» برأي القطبَين المناوئَين


أجواء الإجماع الإيديولوجي حول الحرب في أوكرانيا، وهي تفرض نوعاً من الإرهاب الفكري - السياسي تجاه أيّ موقف نقدي للسياسة المعتمَدة من قِبَل فرنسا وبقيّة القوى الغربية، دفعت القوى المُشكّكة في وجاهتها، وبعضها من قيادات القطبَين المناوئَين لماكرون، إلى عدم الإدلاء بمواقف حادّة ضدّها. لا تؤيّد هذه القيادات بالضرورة التدخّل الروسي في أوكرانيا، غير أنها تَعتبر أن الإصرار على توسيع «الناتو» شرقاً هو من بين الأسباب الرئيسة للحرب الحالية. قد تستفيد تلك القوى من تدهور الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية المُتوقَّع في الأشهر القادمة، للضغط على الحكومة القادمة للحدّ من تورطها في الحرب، وإعطاء الأولوية لحلّ المشكلات الداخلية بدلاً من الإنفاق الباهظ على مغامرات لا تخدم مصالح غالبية الفرنسيين. المنطق نفسه ينسحب على موقف القطب اليساري الجذري من المبادرة الفرنسية في لبنان. فهذا الأخير، المناهض للعولمة النيوليبرالية ولـ«الإصلاحات» التي تفرضها تماشياً مع وصفات «صندوق النقد الدولي»، يدعو إلى سياسة فرنسية بديلة تجاه لبنان، تقوم على تجديد الوظيفة الاجتماعية للدولة بعد إصلاح مؤسساتها، ويبدي ريبته من خطاب «الحوكمة الرشيدة» و«مكافحة الفساد»، والذي يتجاهل دور السياسات الاقتصادية الملتزمة بـ«إجماع واشنطن» في تعميق الفوارق الاجتماعية وإفقار الأغلبيات الشعبية. بالنسبة إلى القضية الفلسطينية، فإن «الاتحاد الشعبي» رافض بوضوح للاحتلال الإسرائيلي وللاستيطان والضمّ ولسياسات القتل والتنكيل بالشعب الفلسطيني، ومعارض لتقارب ماكرون معه، والذي تَمثّل آخر تجلّياته في الخطاب الذي ألقاه جان كاستيكس، رئيس الوزراء السابق، نيابة عنه أمام المجلس التمثيلي للمنظّمات اليهودية في فرنسا، حيث اعتَبر أن «القدس عاصمة إسرائيل».
ليس من المبالغة القول إن «الماكرونية»، باعتبارها أحد آخر التجلّيات السياسية لإيديولوجيا العولمة، قد تلقّت ضربة قاضية مع الانتخابات الرئاسية والتشريعية التي شهدتها فرنسا، لأن وجود كتل وازنة معادية لها داخل البرلمان، والتدهور المتوقَّع في الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، وما قد ينجم عنه من تداعيات سياسية، كل ذلك سيزيد من تضييق هامش حركة الرئيس الفرنسي في بلد مرشّح لأن يصبح «غير قابل للحُكم» كما قالت «لوفيغارو».