التحالف اليساري، على علّاته، يقدّم للشعب الفرنسي بديلاً مرحلياً موثوقاً من التجربة النيوليبرالية الباهتة في ظلّ ماكرون، كما الطرح المتطرّف الذي تمثّله «الجبهة القومية». وهو لديه فرصة معقولة لإعادة رسم الخريطة السياسية لفرنسا من خلال الانتخابات التشريعية، لكن ذلك يتطلّب مشاركة أوسع من الطبقة العاملة والأطراف خارج المدن الكبرى، إلى جانب منسوبي الطبقة الوسطى المتعلّمة في المناطق الحضرية في التصويت للمرشّحين اليساريين. على أن ذلك يبدو أشبه بتحدٍّ عام لتيّار اليسار الديموقراطي عبر أوروبا الغربية والشمالية، والذي فشل بشكل متزايد في استيعاب غضب الفئات الشعبية وخسر تأييدها، إمّا لمصلحة الشعبويين في أقصى اليمين، لا سيّما بعد تجارب في فرنسا - وغيرها - لاشتراكيين نفّذوا لدى تولّيهم السلطة أجندات نيوليبرالية متطرّفة لم يكن اليمين نفسه ليجرؤ على تبنّيها، وإمّا لصالح العزوف عن العملية السياسية برمّتها (28% من الفرنسيين لم يشاركوا في الانتخابات الأخيرة، وهي أعلى نسبة عزوف منذ عام 1969).
الائتلاف الجديد يواجه خطرَين داهمَين قد يقوّض أيّ منهما أو كلاهما التجربة
مهمّة التحالف من هذه الزاوية تبدو ضرورية للمجتمع الفرنسي بعامّة، أكثر منها حاجة للكتلة اليسارية من الناخبين فحسب. إذ إن الأنظمة الديموقراطية التي سادت غرب أوروبا خلال القرن العشرين، تعرّضت دائماً للاهتزاز عندما فشلت في رشوة الطبقة العاملة للقبول بالتحالف مع الطبقة الوسطى في دولة رفاه يَحكمها أو يشارك في حُكمها ولو شكلياً اليسار الديموقراطي، وهو ما سمح في غير مرّة بصعود «الفاشيست» (إيطاليا) أو «الاشتراكيين الوطنيين» (ألمانيا) إلى السلطة عبر صناديق الاقتراع. ويوفّر هذا التكتّل الفرنسي المستحدث فرصة نادرة لإعادة توصيل ما انقطع بين فئات الطبقة العاملة والوسطى المختلفة، التي ما زالت معنيّة بالعملية الديموقراطية لكنها انحرفت عن بعضها البعض سياسياً. فباستثناء حزب «فرنسا المتمرّدة» الذي يفتخر بجمهور من الطبقة العاملة كما الوسطى الدنيا وأيضاً الوسطى العليا المتعلّمة، فإن «الخضر» و«الاشتراكيين» يمثّلون غالباً فئة الطبقة الوسطى العليا من سكّان المدن المهنيين والموظفين، فيما الطبقة العاملة (الياقات الزرق) تصوّت تقليدياً لـ«الشيوعيين».
لكن هذا الائتلاف - مع كلّ ما يحمله من وعود - يواجه خطرَين داهمَين قد يقوّض أيّ منهما أو كلاهما التجربة، على افتراض نجاح اليسار في الحصول على أغلبية بسيطة في البرلمان، وربّما تكليفه بتشكيل الحكومة. ويتمثّل الخطر الأوّل في واقع أن استعادة مستوى أفضل من العدالة الاجتماعية والمالية للفرنسيين، وحجم الاستثمار اللازم في قطاعات الرعاية الصحية والتعليم، سوف يتطلّبان إجراءات أكثر جذريّة بكثير، وسياسات إعادة توزيع للدخول أكثر طموحاً من مجرّد استعادة الضريبة على الثروة كما يَفترض برنامج التحالف الرمادي. ولا شكّ في أن تصدّع التكتّل المبنيّ على حساسيات يسارية وحسابات اجتماعية متنافرة أحياناً، سيكون في غاية السهولة حال الاصطدام بين المكوّنات بشأن ما ينبغي عمله لتجاوز الفجوة بين المأمول والممكن؛ فالذوات المتضخّمة لدى قادة الأحزاب اليسارية ما زالت كما كانت تماماً عشيّة الجولة الأولى من الرئاسيّات، وليس لدى أيّ منها الاستعداد اللازم للمساس بمصالح فئة الـ1% المهيمنة على المال والنفوذ في الجمهورية.
الخطر الآخر يكمن في التوقيت السيّئ الذي يتوحّد فيه اليسار للفوز بالسلطة. ففرنسا، كما بقيّة أوروبا، لمّا تتعافى بعد من مترتّبات الأزمة المالية العالمية (2008)، ولا هي تجاوزت بالكلّية انعكاسات جائحة «كوفيد 19»، وها هي الدولة الفرنسية العميقة تكرّس في الوقت نفسه عديد مواردها لخدمة المجهود الحربي لأوكرانيا في مواجهة العملية العسكرية الروسية هناك، بينما يتصاعد التضخّم لحظياً نتيجة الحرب الاقتصادية التي تشنّها الولايات المتحدة على روسيا، والضغوطات الهائلة وغير المسبوقة على واردات الطاقة. وعليه فإن أيّ حكومة يسارية ستكتشف سريعاً أن ليست لديها لا الميزانية ولا القدرة على إدارة تفاقم الظروف الاقتصادية الصعبة في البلاد، ما لم تتبنَّ سياسات جذرية بصيغة ما، وهو أمر لن يُرضي المنظومة بحال، ما يعني فشلاً محتّماً للتجربة، وفقدان ثقة الجماهير مجدّداً باليسار - إن حَكم - في أيّ استحقاقات انتخابية قادمة. ولذلك تماماً، فإن فوز التحالف الجديد في الانتخابات التشريعية المقبلة لا يثير قلق أحد: لا الدولة الفرنسية العميقة، ولا بروكسل، ولا واشنطن. ولذلك أيضاً، فربّما يكون المسار الأكثر حصافة لليسار الفرنسي في هذه المرحلة الاكتفاء ببناء كتلة معارضة فاعلة داخل البرلمان، من دون تولّي تشكيل الحكومات.