السويد تنهي أكثر من 200 سنة من الحياد
حرص «حزب العمّال الاشتراكي الديموقراطي» السويدي الحاكم، عند إعلان موافقته على انضمام بلاده إلى «الناتو»، على التعبير عن «تحفّظه الأحادي حيال نشر أسلحة نووية في السويد أو إقامة قواعد عسكرية دائمة فوق أراضيها». «التحفّظ» لن يحقّق وظيفته، وهي حجب قطيعة الحزب مع سياسة الحياد تجاه الصراعات بين القوى الكبرى، والتي التزم بها لعقود، ودفاع عدد من قادته، وبينهم أولوف بالمه، وبعده آنا ليند، اللذان تعرّضا للاغتيال تباعاً في 1986 و2003، عن قضايا شعوب الجنوب العادلة، من النضال ضدّ «الأبارتايد» إلى القضية الفلسطينية، ومعارضتهم السياسة الأميركية. هو اختار، منذ ضمّ القرم من قِبَل روسيا في 2014، العودة إلى الانسجام مع توجّهات القوى اليمينية في السويد بالنسبة لمسألة التعاون والتنسيق مع حلف «الناتو»، وصولاً إلى طلب الانضمام إلى هذا الأخير في الأيام الماضية. نحن أمام نهاية مرحلة تاريخية طويلة في السياسة الخارجية للسويد بدأت في 1812، بعد هزيمتها في الحرب مع روسيا في 1809، وخسارتها لفنلندا، التي كانت جزءاً من أراضيها آنذاك.
الدولة التي كانت «نموذجاً» للحياد الإيجابي، صارت رأس حربة لـ«الناتو» ضدّ روسيا
يشير أندرياس بيرسبو، مدير الأبحاث في «الشبكة الأوروبية للقيادة»، في مقابلة على موقع معهد «مونتيني»، إلى أن استوكهولم التزمت ما سمّاه «الحياد المسلّح»، أي استمرّت في تطوير قدراتها العسكرية النوعية، من دون التورّط في النزاعات الجارية، بما فيها الحربان العالميتان، والحرب الباردة، ولم تتغيّر هذه المقاربة بعد انهيار الاتحاد السوفياتي. التحوُّل الحاسم تمّ بعد ضمّ القرم، بحسب الباحثة بربرا كونز، في مقال لها على موقع مجلّة «الدفاع الوطني» الفرنسية، إذ أضحت سياسة استوكهولم الدفاعية «متمحورة حول منطقة بحر البلطيق، وزيادة القدرات العملياتية للجيش السويدي لمجابهة هجوم محتمل على البلاد… هي قامت بتعزيز وجودها العسكري في جزيرة غوتلاند السويدية، وفرضت مجدّداً الخدمة العسكرية الإلزامية على مواطنيها». تلفت الباحثة أيضاً إلى أن التعاون مع «الناتو» اتّخذ منحًى تصاعدياً مذّاك، مع توقيع السويد، وفنلندا، اتفاق «شراكة تعزيز الفرص» مع الحلف في 2014، وكذلك اتفاق «دعم الدولة المضيفة» في 2016، الهادف إلى تحديد الإطار القانوني المنظِّم لعمليات القوات الأجنبية، أي الأطلسية، على أراضي البلدين. تزايدت في تلك الفترة نفسها المناورات العسكرية المشتركة مع «الناتو»، وتبيّن أخيراً أن البلدين كانا يراقبان، بالتنسيق معه، حركة الغواصات الروسية في بحر البلطيق، ويتجسّسان أيضاً على خطوط الاتّصال البحرية الروسية لحسابه. بمجرّد قيام روسيا بمحاولة كسر الطوق الذي يسعى «الناتو» لفرضه عليها في 2014، وفي ظلّ موازين قوى دولية متبدّلة لغير مصلحة الحلف، اختارت السويد الانحياز إلى المعسكر الغربي.
الاستدارة الفنلندية
لم يكن الحياد الفنلندي خياراً إرادياً لهذا البلد، بل هو جاء كنتاج لتاريخ طويل من الصراع مع روسيا، ومن ثمّ الاتحاد السوفياتي، ولموازين القوى التي سادت في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية. استقلّت فنلندا بعد انهيار الإمبراطورية القيصرية بسبب الثورة البلشفية، لكن هلسنكي اتّبعت توجّهات معادية لموسكو. في 1939، اندلع نزاع بين البلدين سُمّي «حرب الشتاء»، بضعة أشهر قبل انفجار الحرب العالمية الثانية، التي تحالفت فنلندا خلالها مع ألمانيا النازية ضدّ السوفيات. من الممكن مقارنة هذا الموقف بذلك الذي اتّخذه القوميون الأوكرانيون في تلك الفترة نفسها، والذين تحالفوا بدورهم مع النازيين. هُزمت هلسنكي في هذه الحرب، ووقّعت في 1948 اتفاقية صداقة وتعاون مع موسكو. الحياد كان نتيجة للهزيمة، واعترافاً بميزان القوى المختلّ لصالح الاتحاد السوفياتي. بعد انهيار الأخير، التحقت فنلندا بالاتحاد الأوروبي، لكنّها بقيت خارج «الناتو» على رغم شراكتها المتنامية معه، علماً أن لها مع روسيا حدوداً بطول 1300 كلم، وهي تستورد منها 97 في المئة من إجمالي وارداتها من الغاز الطبيعي.
تقول سارة وايت، الباحثة الرئيسة في «معهد لكسينغتون»، في مقال على موقع «1945»، بعنوان «دخول فنلندا إلى الناتو يغيّر قواعد اللعبة»، أن هلسنكي «جاهزة تماماً للدفاع عن حدودها الطويلة بفضل قدراتها العسكرية المعزَّزة بأكبر سلاح مدفعية بين جيوش أوروبا الغربية، ولأنها عقدت صفقة لشراء 64 مقاتلة شبحية من طراز F-35 مع واشنطن قبل الغزو الروسي لأوكرانيا. ستُغيّر هذه المقاتلات من الوضعية الاستراتيجية للناتو في شرق أوروبا لأن قدراتها على الاستطلاع والمراقبة ستسمح لها بجمع المعطيات عن القوات الروسية، من دون أن تكون مرئيّة من راداراتها. دخول فنلندا إلى الناتو، ووجود هذه المقاتلات، سيدفعان روسيا إلى التفكير مرّتَين قبل غزو أيّ من دول البلطيق». الدولة التي كانت «نموذجاً» للحياد الإيجابي، صارت رأس حربة لـ«الناتو» ضدّ روسيا، ما يدلّ على حجم التحوّلات الحاصلة على صعيد دولي بفعل اشتداد المواجهة بينها وبين الحلف. وفي الحقيقة، فإن هذه التحوّلات لم يحدثها التدخّل الروسي في أوكرانيا. هي انطلقت قبله، وهو سرّع من وتيرتها.