لندن | إثر سيطرة روسيا على القرم في عام 2014، شرعت الولايات المتحدة بالعمل على تعظيم حضورها العسكري في أوروبا، والضغط على حلفائها في «الناتو» لزيادة إنفاقهم الدفاعي وعديد قواتهم المسلحة. لكن، بعد مرور أكثر من 30 عاماً على نهاية الحرب الباردة، تغيّر المشهد في القارة القديمة، حيث تراجعت الأولويات الدفاعية لدول الاتحاد الأوروبي وخفّت الحماسة لاستقبال المزيد من القوات الأميركية. وبقيت بولندا، بحكومتها اليمينية المتطرفة، استثناءً، فيما يُتوقَّع أن تَكرّس دورها كرأس جسر متقدِّم لواشنطن في جوار روسيا، مع انتقال الحرب الأوكرانية إلى مرحلة الأعمال العسكرية.
بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، في عام 1991، توقّفت الدول الأوروبية الخاضعة للحماية الأميركية في غرب القارة عن القلق في شأن تهديدات وجودية مفترَضة من قِبَل موسكو؛ فخفّض العديد منها ميزانيّاته الدفاعية، وجرى تحويل الجيوش إلى وحدات محترفة أقل عدداً، كما قلّ الاهتمام بالمناورات العسكرية والتسليح الثقيل. وقد حدث ذلك، بينما تراجع تعداد القوات الأميركية المتمركزة في البرّ الأوروبي، ولا سيما في ألمانيا، التي بقيت، طوال عقود الحرب الباردة، قاعدة «الناتو» الرئيسة في الإقليم.
في الموازاة، انتقلت الاستراتيجية العسكرية الأميركية، تدريجياً، إلى أُفق جديد بعيداً عن منطق الحرب الكلاسيكية. فقد اعتنقت نخبة واشنطن نظرية الحرب الهجينة، التي تُعسكر كل ما هو غير مُعسكَر، وشرعت، بعد تجربة أفغانستان الثمانينيات، الناجحة في توظيف «مجاهدين»، بتحقيق أهدافها، من دون توريط جنود أميركيين في القتال على الأرض. علاوة على ذلك، بنت الولايات المتحدة منظومة حصار جغرافي وعسكري واقتصادي لروسيا، عبر تمدّد «الناتو» في شرق أوروبا، وتوسُّع النفوذ الأميركي في جمهوريات آسيا الوسطى (السوفياتية سابقاً)، من خلال الثورات الملوّنة، والعلاقات الوثيقة مع النّخب البرجوازية الحاكمة.
لكنّ الأمور تغيّرت بعد سيطرة روسيا على جزيرة القرم في عام 2014، إذ إن التوجّه المتزايد لتحويل الصين إلى «عدو استراتيجي» للولايات المتحدة، بدلاً من روسيا، بدا متسرّعاً في توقُّع تطوّر الأحداث. ووجدت الرؤوس الحامية في «البنتاغون»، أنه من الضروري تعظيم حضور «الناتو» العسكري في أوروبا مجدداً، والضغط على الحلفاء الأوروبيين لزيادة إنفاقهم الدفاعي (2% من الناتج القومي)، وعديد قواتهم المسلّحة. على أن الأميركيين لمسوا فتوراً أوروبياً في هذا الاتجاه، إذ إن الألمان أرادوا تجنُّب إثارة عداء موسكو التي أصبحت أهمّ مورّديهم للطاقة الرخيصة اللازمة لإدارة ماكينة الاقتصاد، فيما تحلم فرنسا بجيشٍ أوروبي يتولّى أمن القارة، بدلاً من القوات الأميركية. بولندا، بحكومتها اليمينية المتطرفة، وحدها كانت الاستثناء؛ فرحّبت، بحفاوة غير مسبوقة، باستضافة قوات أميركية على أرضها، ووفّرت لها تسهيلات لوجستية وعملياتية مهمّة، ودخلت في برنامج تسلُّح وتحديث عسكري ضخم، يفوق بكثير حدّ الـ2% من الناتج القومي التي أرادت واشنطن فرضها. فضلاً عن ذلك، عرضت على الولايات المتحدة مساهمة تناهز المليارَي دولار لدعم توجّهات لنقل عمليات «الفيلق الأميركي الخامس» (القوّة العسكرية التقليدية الرئيسة في أوروبا)، إلى قواعد على الأراضي البولندية، واستضافة مركز التخزين الرئيس للمعدّات القتالية الأميركية. وكانت حكومة وارسو قد رصدت ميزانية خمسية، بما يقرب من 50 مليار دولار لشراء: طائرات مقاتلة من الجيل الخامس، طائرات من دون طيار، مروحيات هجومية، وصواريخ قصيرة المدى، وغواصات، بعد التخلّص التدريجي من العتاد السوفياتي، ولا سيما الدبابات، والطائرات، وأنظمة الدفاع الجوي، وتقنيات الأمن السيبراني. كما استضافت أكبر مناورات «الناتو» بعد الحرب الباردة، من خلال برنامج «ديفندر»، الذي شاركت فيه فرقة أميركية ثقيلة كاملة ضمّت أكثر من 20 ألف جندي من القوات المنتشرة في أوروبا.
تفترض وارسو دائماً أنها في مأمن من غضب روسي تجاهها، بحكم عضويتها في «الناتو»


وإذا كانت الجغرافيا تملي أن تلعب بولندا دوراً رئيساً في خطط «الناتو» لتعزيز قدراته على محاصرة روسيا، فإن جموح النخبة البولندية الحاكمة، في معاداة موسكو، وإلحاحها المتكرّر على الأميركيين لتولّي أدوار استراتيجية - فوق وزنها - بين أعضاء «الناتو» (انضمت بولندا في عام 1999)، جعلاها مرشّحة طبيعية لتولّي الدور الذي لعبته ألمانيا الغربية خلال الحرب الباردة، كحجر زاوية للقوات الأميركية في الجوار الروسي. ومن الجليّ أيضاً، أن بولندا أثبتت مصداقية عالية في خدمة الجهود الأميركية لإسقاط أوكرانيا في الفلك الأميركي، ووفّرت، خلال عقد تقريباً، البُنية التحتية اللازمة لتدريب وتسليح آلافٍ من القوميين الأوكرانيين، تحضيراً لساعة الصفر، إضافة إلى تجهيزات لوجستية لاستيعاب مئات آلاف اللاجئين، في حال نشوب صراع عسكري.
وهكذا، مع انتقال الحرب الأوكرانية إلى مرحلة الأعمال العسكرية، في شباط الماضي، تكرّست معادلات الجغرافيا والسياسة لتصبح بولندا، في غضون أسابيع قليلة، نقطة الارتكاز للغرب في حربه المتعدّدة الأوجه على روسيا. فتدفّقت، عبرها، مئات صواريخ «ستينغر» المضادة للطائرات، و»جافلين» المضادة للدبابات، وغيرها من الذخائر، كجزء من حزمة أميركية بقيمة 350 مليون دولار لمساعدة أوكرانيا. إضافة إلى ذلك، أرسلت من عتادها الخاص قافلة ذخيرة إلى كييف، تضمّنت: قذائف «هاون»، طائرات صغيرة من دون طيار، أنظمة صواريخ محمولة على الكتف، وشحنات أسلحة من دول أخرى، بما في ذلك معدات بقيمة 500 مليون دولار مموّلة من الاتحاد الأوروبي، ثم عرضت إرسال طائراتها من طراز «ميغ 29» إلى أوكرانيا، مقابل الحصول على طائرات أميركية. ومنذ بدء العملية الروسية، عَبَر 217 ألف مسلّح أوكراني وغير أوكراني الحدود البولندية، ليكونوا نواة مقاومة أوكرانية، في ما إذا نجحت القوات الروسية في إسقاط كييف.
حجم بولندا وموقعها وبنيتها التحتية، وتوجهات حكومتها، تجعل منها أهمّ بوابة للغرب في مواجهة روسيا في الحرب القائمة، إذ تمتدّ حدودها مع أوكرانيا على طول 530 كيلومتراً، تتخلّلها أكثر من عشرة معابر، كما أن المطار في رزيسزو، على بعد حوالى ساعة في السيارة من الحدود، هو أقرب مطار كبير إلى أوكرانيا على أراضٍ لـ»الناتو». وتُظهر بيانات الطيران ارتفاعاً هائلاً في عدد الطائرات العسكرية التي تشارك في تسليم الأسلحة، ونقْل المقاتلين التي مرّت عبره. وإذا سقطت كييف في أيدي الروس، فمن المحتمل أن يعيد القوميون الأوكرانيون تجميع صفوفهم في لفيف غرب البلاد، على بعد 80 كيلومتراً فقط من الحدود البولندية، وبالقرب من مخزن بشري يضمّ مليون وثلاثمئة لاجئ يقيمون الآن في مراكز استيعاب تديرها القوات الأميركية، إضافة إلى مليون أوكراني مقيمين مسبقاً داخل البلاد، الأمر الذي من شأنه أن يزيد من أهمية بولندا.
وقد عزّز «الناتو» من وجوده في بولندا، بشكل ملحوظ خلال الأسابيع القليلة الماضية، حيث أرسلت الولايات المتحدة 5 آلاف جندي إضافي، حتى قبل العملية الروسية، ليصل العدد الإجمالي إلى حوالى 10000 جندي يتمركزون الآن على الحدود قبالة أوكرانيا. كذلك، وافقت واشنطن، أخيراً وبشكل عاجل، على بيع 250 دبابة «أبرامز» إلى الجيش البولندي. وقد يساعد هذا الانخراط الفعلي في المجهود الحربي للحلفاء، على استعادة الثقة المفقودة بين وارسو وبروكسل، إذ طالما انتقدت قوى فاعلة في الاتحاد الأوروبي، الحكومة البولندية لانحيازاتها المتطرفة وتكديسها مقرّبين من النظام في محكمتها العليا، وتهديد القضاة الذين يحكمون ضدّها، كما تضييقها المستمر على وسائل الإعلام. وكانت بروكسل قد جمّدت، في وقت سابق، 36 مليار يورو من أموال التعافي من جائحة «كورونا» خُصِّصت لبولندا، وفرضت عليها غرامات باهظة لتجاهلها أحكام محكمة العدل الأوروبية. وبالتالي، لا شكّ في أن الحكومة البولندية تتوقّع أن يبرّد دورها الحالي، الأجواء مع الفرقاء الأوروبيين.
وارسو تفترض دائماً أنها في مأمن من غضب روسي تجاهها، بحكم عضويتها في «الناتو»، ولكنّها سياسة قد تثبت قصر نظرها، إذا تطوّرت الأمور خلال الأسابيع والأشهر المقبلة، ذلك أن للحرب منطقها الذي لا يخضع بالضرورة للمنطق ذاته الذي يحكم فترة ما قبل الحرب. ولا يستبعد خبراء أن يقرّر الروس، في وقت ما، استهداف خطوط الإمداد التي تربط بولندا بأوكرانيا بالصواريخ الذكية، إضافة إلى احتمال قطع إمدادات الطاقة وشنّ حرب إلكترونية واسعة النطاق، تستهدف المرافق الحيوية ومحطّات توليد الكهرباء في الداخل البولندي. ومن الواضح أن الولايات المتحدة، أقلّه إلى الآن، غير مستعدّة للتورّط في حربٍ مباشرة مع روسيا، لا من أجل أوكرانيا ولا من أجل غيرها، وعلى الأغلب أنها ستكتفي، في حال توسّع رقعة الصراع، بشحن مزيدٍ من بطاريات «باتريوت» للدفاع الصاروخي من ألمانيا إلى شرق بولندا، بدلاً من المخاطرة بتفجير حرب عالمية واسعة النطاق.