ولعلّ الموقف الأكثر تعبيراً عن إفلاس القمّة، تَمثّل في إصرار بعض الحاضرين، بِمَن فيهم مضيفها إيمانويل ماكرون، على أن "الحرب تجري على الأرض، لكن أوروبا نفسها ليست في حالة حرب". وعندما ألحّ أحد المراسلين على الرئيس الفرنسي للتعليق بشأن عجز الاتحاد الأوروبي عن وقف الصراع على الأرض الأوكرانية، قال: "أنت محقّ تماماً في القول إنه ليست لدينا قدرة الردّ على مسرح الحرب التي أثارتها موسكو، لأننا ببساطة لسنا هناك على ذلك المسرح". وبينما وافق القادة على فرض حزمة جديدة من العقوبات، وإجراءات الحصار الاقتصادي على موسكو، فقد تجنّبوا تماماً طرح مسألة حظر إمدادات الطاقة الروسية، على رغم التحذير (الفارغ) من أن كلّ الخيارات على الطاولة. فاكتفوا بتبنّي تصوُّر رغائبي حول التأسيس لما قد يلزم، في إطار السعي للتخلّص من الاعتماد على أيّ مورد واحد لاحتياجات القارّة من الطاقة مستقبلاً.
وكان الهدف من القمّة التي استمرّت ليومين، بحضور رئيسة البنك المركزي الأوروبي، كريستين لاغارد، ورئيس مجموعة اليورو، باسكال دونوهو، أن تكون مناسبة للبدء في إعادة التفكير في قواعد الديون، وإدارة العجز في الاتحاد الأوروبي. وفي هذا الإطار، كان رئيس الوزراء الإيطالي ماريو دراغي، الرئيس السابق للبنك المركزي الأوروبي، شريكاً لماكرون في وضع تصوّرات محدّدة لطرحها على القمّة، لكن جدول الأعمال تبعثر كليّاً، بسبب مزاج الحرب الذي فُرض على أوروبا. وقضى الزعماء ساعات طوالاً في مواجهات حادّة أحياناً، بشأن التعامل مع الارتفاعات القياسيّة في أسعار النفط والغاز، والاحتمالات المتزايدة لتعطّل إمدادات المواد الحيوية للاقتصاد العالمي، بما في ذلك المنتجات الزراعيّة، وما قد يعنيه من نقص للغذاء على مستوى العالم، كما سبُل دعم أوكرانيا في مواجهة غضبة العملاق الروسي، من دون التورّط مباشرة في الصراع. ويأتي هذا بينما تريد إسبانيا وإيطاليا واليونان، وربما فرنسا، مزيداً من الإجراءات العاجلة للتعامل مع المترتّبات على ارتفاع أسعار الطاقة. أيضاً، أمضى القادة ما يقرب من خمس ساعات في مناقشة طلب أوكرانيا الموافقة السريعة على حصولها على عضوية الاتحاد الأوروبي، على الرغم من عدم وجود مثل هذه العملية السريعة من الناحية الفنية في تشريعات الاتحاد.
اعترف القادة الأوروبيون أمام بعضهم البعض بحاجتهم الوجودية لإعادة صياغة قواعد نظامهم
وكما كان متوقّعاً، أثبت الجدل الذي دار في القمّة أن المسألة مثيرة للانقسام؛ إذ دفعت دول أوروبا الشرقية - لا سيّما بولندا وليتوانيا - نحو توجيه إشارة إيجابية قوية دعماً لنظام كييف، في حين تلاقت غالبية الأعضاء الكلاسيكيين في أوروبا الغربية (وخصوصاً هولندا والدنمارك) على أن مستقبل أوكرانيا ليس أكثر من "اتفاقية الشراكة" التي وقّعتها مع الاتحاد الأوروبي، وليس داخل النادي نفسه، أقلّه على المدى القريب. وفيما شكّك رئيس الوزراء الهولندي، مارك روته، في وجود حلٍّ وسط لهذه المسألة، فقد سمح نصّ البيان الختامي الذي صدر بالتوافق الجماعي، للجميع بادّعاء النصر في مساعيه. فوفق البيان، "ستُسرّع المفوضية الأوروبية في النظر في الطلب الأوكراني بصفة غير مسبوقة"، إلّا أن "ذلك سيستغرق وقتاً - أشهراً إن لم يكن سنوات". ويشير ذلك إلى البحث عن طريقة ديبلوماسية لرفض الطلب، وتجنُّب تصعيد الخلافات مع موسكو، من أجل تحقيق أوهام الرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي. وفي الموازاة، تعهّد القادة الأوروبيون بدعم أوكرانيا - "التي تنتمي لعائلتنا الأوروبيّة" - سياسياً ومالياً، ومنح الحماية المؤقتة للاجئين الذين تتوقّع واشنطن، أن يصل عددهم إلى 5 ملايين شخص.
ومن هذا المنطلق، أعلن شارل ميشيل، وإلى جانبه مسؤول السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي، جوزيب بوريل، عن اقتراحٍ بزيادة مساهمة الاتحاد الأوروبي في الدعم العسكري لأوكرانيا، بمقدار 500 مليون يورو أخرى، من خلال صندوقٍ خارج الميزانية يسمّى "مرفق السلام الأوروبي". وأعطى كلا الرجلين انطباعاً بأن القادة قد وافقوا على الخطّة، لكن المستشار الألماني، أولاف شولتز، ورئيس الوزراء الهولندي، مارك روته، تناقضا مع ذلك، وقالا إنه لم يتمّ اتخاذ أيّ قرار بعد، ممّا استدعى اعترافاً من أحد مساعدي ميشيل، في وقت لاحق، بأن الاقتراح "مطروح على الطاولة"، لكنّه يتطلّب موافقة رسمية من مجلس الاتحاد الأوروبي.
خلال القمة، تداول القادة، أيضاً، محاولة إنهاء اعتماد دولِهم على إمدادات الطاقة من روسيا. إلّا أن خلافات كبيرة كانت ملحوظة حول تحقيق هذا الهدف، من دون تضخّمٍ هائل بالأسعار للمواطنين ومصالح الأعمال، وأيضاً المدى الزمني للوصول إليه. وبينما تتحدّث بروكسل عن خطّة من خمس سنوات، فإن دولاً وازنة في الاتحاد، ومنها ألمانيا وإيطاليا وهنغاريا، لديها شكوكٌ عميقة في ذلك. وفي السياق، كُلِّفت المفوضية الأوروبية بوضع خطة محدّدة، بحلول نهاية أيار، فيما تجنّب الجميع طرح مسألة فرض عقوبات على روسيا في هذا القطاع الاستراتيجي والحيوي للشعوب الأوروبيّة، لا من قريب ولا من بعيد.
في غضون ذلك، استغلّ بعض قادة دول جنوب الاتحاد الأوروبي، بمن فيهم رئيس الوزراء الإيطالي، القمّة للضغط من أجل مزيدٍ من الاقتراض المشترك، على غرار برنامج الديون المشترك في خطّة الاتحاد الأوروبي للإنقاذ والتعافي الاقتصادي من جائحة "كوفيد 19". وقال دراغي إن مناخ الحرب خلق "حاجة إلى إعادة النظر في الصيغة التنظيميّة للاتحاد بأكمله... في قوانين مساعدة الدول أو معايير المنتجات الزراعية التي يمكن استيرادها، وأيضاً في سوق الكهرباء". لكن قادة الشمال الأوروبي أبدوا معارضة لتلك المقترحات، وقال رئيس الوزراء الهولندي إن بلاده "لا تؤيّد سندات اليورو أو إصدار الديون المشتركة"، مشيراً إلى أنه سيكون من الأفضل، أوّلاً، إعادة توجيه الأموال من خطّة الاتحاد الأوروبي للتعافي بعد الجائحة، والتي لم تنُفق بعد.
من جهته، حاول ماكرون، الذي سيخوض الشهر المقبل استحقاقاً انتخابياً، التظاهر بأن الأمور على ما يرام داخل الاتحاد، وبأن الجميع "متّحدون" في مواجهة التحدّي الروسي. فأشاد بألمانيا "التي قرّرت، قبل أكثر من 10 أيام، تنفيذ استثمارات تاريخية في مجال الدفاع"، وبالدنمارك "التي اتّخذت أيضاً خياراً تاريخياً بأن تقدّم لشعبها، في غضون عدة أشهر، إمكان العودة إلى المشروع الأوروبي للأمن والدفاع". وتبجّح أمام الصحافيين، بالقول: "إنكم بالتأكيد ترون ذلك. في كلّ مكان في قارتنا، يتمّ اتخاذ خيارات تاريخية، تمثّل نقاط تحوُّل رئيسية. يجب أن ننظّم ذلك على المستوى الأوروبي لبناء تلك القدرة المشتركة عندما يتعلّق الأمر بالدفاع". لكن مسؤولاً أوروبياً رفيع المستوى، علّق قائلاً إن "هناك حتماً شعوراً واسع النطاق ومشتركاً بين الجميع بالحالة الطارئة، لكنّ القضايا معقّدة للغاية، بالتالي، فإن مجرّد ترديد شعارات نحن متّحدون لا تكفي". وتدفع فرنسا، تاريخياً، إلى بناء استراتيجية أمنية ودفاعية موحّدة لدول الاتحاد، لكنها لا تحظى بتأييد الجميع، وتقابل واشنطن تلك الأفكار ببرود شديد.