طوال السنوت الماضية، رأى العالم السياسي أنّ التدخّل الغربي هو السبب خلف عدائية فلاديمير بوتين تجاه أوكرانيا. فهل غيّرت الأحداث الأخيرة رأيه؟جون ميرشايمر هو أحد أشهر نُقّاد سياسات الولايات المتحدة الخارجية، منذ نهاية الحرب الباردة. وقد اشتهر بكتابه الذي ألّفه بالتعاون مع ستيفان والت: "اللوبي الإسرائيلي وسياسة الولايات المتّحدة الخارجية". وميرشايمر هو من أنصار سياسة القوى العظمى، وهي مدرسة في العلاقات الدولية الواقعية، التي تفترض أنّ الدول ستتصرّف بشكل استباقي تجاه ما تتوقّعه من الخصوم، في محاولة تصبّ في مصلحتها الذاتية للحفاظ على الأمن القومي. لسنوات، رأى ميارشايمر أنّ الولايات المتحدة، من خلال سعيها إلى توسيع "حلف شمال الأطلسي" شرقاً، وإقامة علاقات ودية مع أوكرانيا، زادت من احتمال اندلاع حرب بين القوى النووية، وشكّلت أساساً لموقف فلاديمير بوتين العدواني تجاه أوكرانيا. وبالفعل، عام 2014، بعد ضمّ روسيا شبه جزيرة القرم، كتب ميرشايمر أنّ "الولايات المتحدة وحلفاءها الأوروبيين يتشاركون القدر الأكبر من المسؤولية تجاه هذه الأزمة".
أعاد الغزو الحالي لأوكرانيا العديد من النقاشات القديمة عن العلاقة بين الولايات المتحدة وروسيا إلى الواجهة. وفي حين يزعم العديد من منتقدي بوتين بأنّه كان سيتبع سياسة خارجية عدائية تجاه الجمهوريات السوفياتية السابقة، بمعزل عن دور الغرب، إلّا أنّ ميارشايمر يصرّ على أنّ الولايات المتحدة هي من أخطأ عبر استفزازه. وفي مقابلة عبر الهاتف مع مجلّة "ذي نيويوركر"، تحدّث ميرشايمر عمّا إذا كان بالإمكان منع اندلاع الحرب الحالية، وعن خطط بوتين النهائية بشأن أوكرانيا، وإلى أيّ مدى يعدّ تصنيف روسيا كقوّة إمبريالية منطقياً.

استناداً إلى الوضع الراهن بين روسيا وأوكرانيا، كيف وصل العالم برأيك إلى هذه النقطة؟
ــ أعتقد أنّ المشاكل الفعلية المرتبطة بهذه المسألة بدأت في نيسان عام 2008، خلال مؤتمر قمة "حلف شمال الأطلسي" في بوخارست. عقب المؤتمر، أصدر الحلف بياناً أعلن فيه نيّته ضمّ أوكرانيا وجورجيا. وآنذاك، أكّد الروس بوضوح تامٍّ أنّهم يعتبرون هذه الخطوة تهديداً وجودياً لهم. وصنّفوا الأمر على أنّه خطّ أحمر. ومع ذلك، مضينا قدماً في ضمّ أوكرانيا إلى الغرب، وتحويلها إلى ثورٍ غربي على حدود روسيا. بطبيعة الحال، يتعدّى الموضوع مجرّد توسيع "حلف شمال الأطلسي". ففي حين كان هذا التوسُّع أساس الاستراتيجية المتّبعة، إلّا أنّها تشمل أيضاً توسّع الاتحاد الأوروبي، وتحويل أوكرانيا إلى ديموقراطية ليبرالية مؤيّدة لأميركا. ومن وجهة نظرٍ روسية، يُعدّ هذا تهديداً وجودياً.

أنت تقول إنّ المسألة تتعلّق بـ"تحويل أوكرانيا إلى ديموقراطية ليبرالية مؤيّدة لأميركا". أنا لا أثق كثيراً في فكرة "تحويل" البلدان إلى ديموقراطيات ليبرالية. ماذا لو كانت أوكرانيا، أي الشعب الأوكراني، هو من يريد أن يعيش في ديموقراطية ليبرالية مؤيّدة لأميركا؟
ــ لو أنّ أوكرانيا تحوّلت إلى ديموقراطية ليبرالية مؤيّدة لأميركا، وأصبحت عضواً في "حلف شمال الأطلسي"، وعضواً في الاتحاد الأوروبي، فلن يقبل الروس بذلك على الإطلاق. أمّا في حال عدم وجود أيّ توسّع للحلف أو للاتحاد، وانحسر الأمر بتحوّل أوكرانيا إلى ديموقراطية ليبرالية، تجمعها علاقات ودّية مع الولايات المتحدة والغرب عموماً، لكان من المحتمل أن تفلت من العقاب. علينا أن ندرك أنّ الاستراتيجية المتّبعة هنا تقوم على ثلاثة محاور: توسيع الاتحاد الأوروبي، وتوسيع "حلف شمال الأطلسي"، وتحويل أوكرانيا إلى ديموقراطية ليبرالية مؤيّدة لأميركا.

تستعمل باستمرار عبارة "تحويل أوكرانيا إلى ديموقراطية ليبرالية"، وعلى الأرجح أنّ تحديد هذه المسألة يعود إلى الأوكرانيين. كما يمكن لـ"الناتو" أن يقرّر من يضمّ إليه. غير أنّه في عام 2014، بدا أنّ عدداً من الأوكرانيين أرادوا أن يكونوا جزءاً من أوروبا. بالتالي، أن تقول لهم إنّهم لا يمكن أن يكونوا ديموقراطية ليبيرالية، يمكن أن يصنّف نوعاً من الإمبريالية.
ــ إنها ليست إمبريالية، بل سياسة القوة العظمى. عندما تكون دولة مثل أوكرانيا، وتعيش بجوار قوة عظمى على غرار روسيا، يتوجّب عليك أن تولي اهتماماً دقيقاً لما يفكّر به الروس، لأنّك إذا مسكت عصا وأدخلتها في عينهم، فهُم سينتقمون. وتفهم الدول الواقعة في النصف الغربي من الكرة الأرضية هذا جيداً، في ما يتعلق بالولايات المتحدة.

نحن نتحدّث بشكل أساسي عن "مبدأ مونرو".
ــ بالطبع، فنحن لن نسمح لأيّ دولة في النصف الغربي من الكرة الأرضية، بدعوة قوة عظمى بعيدة لجلب قوات عسكرية إليها.

صحيح، ولكن عندما نقول إنّ أميركا لن تسمح للبلدان في النصف الغربي، ومعظمها من الديموقراطيات، بأن تقرّر أيّ نوع من السياسة الخارجية ستتّبع، سواء اعتبرناه أمراً جيداً أو سيئاً، فهذا يعدّ نوعاً من الإمبريالية، أليس كذلك؟ نحن نقول أساساً إنّ لدينا نوعاً من النفوذ على طريقة إدارة الدول الديموقراطية لشؤونها.
ــ نحن لدينا هذا النفوذ بالفعل، وقد أطحنا برؤساء منتخبين ديموقراطياً في الجزء الغربي من الكرة الأرضية، خلال الحرب الباردة، لأننا لم نكن راضين عن سياساتهم. إنّ القوى العظمى تتصرّف بهذا الأسلوب.

نحن فعلنا ذلك حقاً، ولكن أنا أتساءل عمّا إذا كان علينا أن نتصرّف بهذه الطريقة. عندما نفكّر في السياسات الخارجية، هل يجب أن نفكّر في إمكانية الوصول إلى عالم حيث لا الولايات المتحدة ولا روسيا تتصرّف بهذه الطريقة؟
ــ العالم لا يسير بهذا الشكل. وعندما تحاول خلق عالم كهذا، سينتهي بك المطاف بانتهاج السياسات الكارثية التي اتبعتها الولايات المتحدة في لحظة القطب الواحد، عندما كنّا نجول العالم محاوِلين خلق ديموقراطيات ليبرالية. وبالطبع، كان تركيزنا الرئيسي على الشرق الأوسط الكبير، وأنت تعلم على أيّ نحو سارت الأمور. ليس بشكل جيّد جداً.

أعتقد أنّ من الصعب اعتبار أنّ سياسة أميركا في الشرق الأوسط، في السنوات الخمس والسبعين الماضية، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، أو في السنوات الثلاثين الماضية، منذ نهاية الحرب الباردة، كانت تهدف إلى إنشاء ديموقراطيات ليبرالية في الشرق الأوسط.
ــ بل أعتقد أنّ هذا ما كان تدور حوله "عقيدة بوش" خلال لحظة القطب الواحد.

قد ينطبق ذلك على العراق، ولكن ليس على الأراضي الفلسطينية، أو المملكة العربية السعودية أو مصر، أو في أي مكان آخر، أليس كذلك؟
ــ كلا. حسناً، وإن لم يمكن ذلك في المملكة العربية السعودية ومصر، ففي البداية، قامت "عقيدة بوش" أساساً حول فكرة أنّه في حال تمكنّا من خلق ديموقراطية ليبرالية في العراق، فسيكون لذلك تأثير الدومينو، وسوف تتحول بلدان مثل سوريا وإيران، والمملكة العربية السعودية ومصر، في نهاية المطاف، إلى ديموقراطيات. كانت تلك الفلسفة الأساسية وراء "عقيدة بوش". ولم تكن تهدف هذه العقيدة إلى تحويل العراق إلى ديموقراطية فحسب، بل كان لدينا الكثير من المخططات.

يجوز النقاش حول مدى رغبة المسؤولين في إدارة بوش آنذاك في تحويل الشرق الأوسط إلى مجموعة من الديموقراطيات، واعتقادهم بأنّ هذا كان قابلاً للتحقيق فعلاً. أعتقد أنّهم لم يكونوا فعلاً متحمّسين لتحويل المملكة العربية السعودية إلى ديموقراطية.
ــ حسناً، أعتقد أنّ من الأسهل، من وجهة نظرك، التركيز على المملكة العربية السعودية. أمّا من وجهة نظر أميركا، فكانت هذه النقطة الأصعب بالنسبة إليها، لأنّ المملكة العربية السعودية تتمتّع بنفوذ كبير علينا بسبب النفط، وهي بالتأكيد ليست ديموقراطية. غير أنّ "عقيدة بوش"، كما ذكرنا سابقاً، كانت مبنية على مبدأ أنّه يمكن إضفاء الطابع الديموقراطي على الشرق الأوسط الكبير، وأنّه بالرغم من أنّ هذا قد لا يحدث بين ليلة وضحاها، لكنّه سيحدث في نهاية المطاف.

من وجهة نظري، ما يهمّ فعلاً هو الأفعال لا الأقوال، وبغضّ النظر عن خطابات بوش المنمّقة، فأنا لا أرى أنّ سياسة الولايات المتحدة، في أيّ مرحلة من تاريخها الحديث، كانت تقضي بفرض الديموقراطيات الليبرالية في مختلف أنحاء العالم.
ــ هناك فرق كبير بين سلوك الولايات المتحدة، خلال لحظة القطب الواحد، وسلوكها على امتداد تاريخها. أوافقك الرأي في ما يتعلّق بسياسة الولايات المتّحدة على امتداد تاريخها الواسع، لكنّ لحظة القطب الواحد هي حقبة مميّزة جداً. وأعتقد أننا كنّا ملتزمين التزاماً عميقاً خلالها بنشر الديموقراطية.
وفي ما يتعلّق بأوكرانيا، من المهم جداً أن نفهم أنّه، حتى عام 2014، لم نكن نتصوّر أنّ سياسة توسّع "حلف شمال الأطلسي" والاتحاد الأوروبي، كانت تهدف إلى احتواء روسيا. لم يفكّر أحد جدّياً بأنّ روسيا كانت تشكّل أيّ تهديد، قبل 22 شباط 2014، بل إنّ توسيع نطاق "حلف شمال الأطلسي"، وتوسيع الاتحاد الأوروبي، وتحويل أوكرانيا وجورجيا وغيرهما من البلدان إلى ديموقراطيات ليبرالية، كان الهدف من ورائها إنشاء منطقة سلام عملاقة امتدّت على جميع أنحاء أوروبا، وشملت أوروبا الشرقية وأوروبا الغربية. ولم يكن الهدف منها احتواء روسيا. ما حدث هو أنّه لدى اندلاع تلك الأزمة الكبرى، كان علينا أن نلقي اللوم على أحد، وبطبيعة الحال، لم نكن لنلقي اللوم على أنفسنا أبداً، بل على الروس. لذلك، اخترعنا قصة أنّ روسيا تنوي أصلاً انتهاج سياسة عدوانية في أوروبا الشرقية، وأنّ بوتين يسعى إلى إنشاء روسيا الكبرى، أو ربما إعادة بناء الاتحاد السوفياتي حتى.

دعونا ننتقل إلى فترة ضمّ شبه جزيرة القرم. كنت أقرأ مقالاً قديماً لك، كتبت فيه: "وفقاً للتفكير السائد في الغرب، يمكن إلقاء اللوم كلّه في الأزمة الأوكرانية تقريباً على العدوان الروسي. وتستند هذه الحجّة إلى أنّ ضمّ الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، شبه جزيرة القرم ينضوي ضمن نيّة قديمة لإنعاش الإمبراطورية السوفياتية، ما قد يجعله يلاحق بقية أوكرانيا، فضلاً عن بلدان أخرى في أوروبا الشرقية". وتتابع: "غير أنّ هذا التقدير خاطئ". هل حدث في الأسابيع الماضية ما جعلك تظنّ بأنّ هذا التقدير كان أقرب إلى الحقيقة ممّا كنت تعتقد؟
ــ بل أعتقد أنني كنت على حق. أعتقد أنّ الأدلّة تشير بوضوح إلى أنّنا لم نكن نعتقد أنّه كان بمثابة معتدٍ قبل 22 شباط 2014، بل اخترعنا هذه القصة لإلقاء اللوم عليه. وتستند حجّتي إلى أنّ الغرب، والولايات المتحدة بشكل خاص، مسؤول بشكل رئيسي عن هذه الكارثة. ولكن لا أحد من صنّاع السياسات الأميركيين، وفي أيّ مكان في مؤسّسة السياسة الخارجية الأميركية، سيتبنّى هذه الحجة، بل سيقولون إنّ الروس هم المسؤولون عمّا حصل.

تعني لأنّ الروس هم من قاموا بالضم والغزو؟
ــ نعم.

ما لفتني في مقالك هو إصرارك على أنّ فكرة أنّ بوتين قد يسعى في نهاية المطاف إلى السيطرة على بقية أوكرانيا، فضلاً عن بلدان أخرى في أوروبا الشرقية، هي خاطئة. ونظراً إلى أنّه يبدو أنّه يسعى وراء بقية أوكرانيا الآن، هل تعتقد، بعد فوات الأوان، أنّ هذه الحجة ربما باتت أكثر صحّة اليوم؟
ــ من الصعب أن نجزم ما إذا كان سيسعى للسيطرة على سائر أوكرانيا، لأنّ هذا يعني ضمناً أنه يريد أن يغزو أوكرانيا كلّها، ومن ثم سوف يستهدف دول البلطيق، وأنّ هدفه هو خلق روسيا الكبرى أو إعادة تأسيس الاتحاد السوفياتي. في هذه المرحلة، لا أجد دليلاً على صحّة ذلك. كما من الصعب، نظراً إلى معطيات الصراع الجاري، تحديد ما ينوي القيام به. من الواضح بالنسبة إليّ أنّه سيسيطر على منطقة دونباس، وتحويلها إمّا إلى دولتين مستقلّتين، أو إلى دولة واحدة مستقلّة كبيرة، إلّا أنّ ما سيقوم به بعد ذلك ليس واضحاً. من الواضح أنّه لا يريد المساس بغرب أوكرانيا.

إلّا أنّ قنابله تمسّ بها، أليس كذلك؟
ــ ولكن هذه ليست القضية الرئيسية. القضية الرئيسية هي: ما هي المنطقة التي تغزونها، وما هي المنطقة التي تتمسّكون بها؟ كنت أتحدّث مع أحد الأشخاص في وقت سابق حول ما ستقوم به القوات التي تخرج من شبه جزيرة القرم، وأخبرني أنه يرجّح أنّهم سيتّجهون غرباً ويسيطرون على أوديسا. أمّا أخيراً، فكنت أتحدث مع شخص آخر، أكّد لي أنّ هذا لن يحدث. فهل بمقدوري أن أعلم ماذا سيحدث؟ لا، لا أحد منّا يعرف ما سيحدث.

ألا تعتقد بأنّ لديه خططاً بشأن كييف؟
ــ لا. لا أعتقد أنّ لديه خططاً بشأن كييف. أعتقد أنه مهتمّ على الأقل بانتزاع دونباس، وربما بعض الأراضي الأخرى، وشرق أوكرانيا. وثانياً، هو يريد حكومة موالية لروسيا في كييف، حكومة تحاكي مصالح موسكو.

ألم تقُل سابقاً بأنّه ليس مهتمّاً بالسيطرة على كييف؟
ــ كلا، إنّه مهتمّ بالسيطرة على كييف بهدف تغيير النظام. حسناً؟

وما الفكرة التي تنقضها بذلك؟
ــ فكرة أنّه يرغب في احتلال كييف بشكل دائم.

سيتمّ تشكيل حكومة موالية لروسيا، يكون لديه على الأرجح نفوذ مستمرّ عليها إذاً.
ــ نعم، بالضبط. ولكن من المهم أن نفهم أنّ الأمر يختلف اختلافاً جوهرياً عن غزو كييف والتمسّك بها. هل تفهم ما أقوله؟

يمكننا اعتبار هذا شبيهاً بجميع أمثلة الاستحواذ الإمبريالي، حين يتمّ وضع حاكم صوري على العرش، حتى لو أنّ من وضعه كان يسيطر فعلياً على ما يحصل في البلاد، أليس كذلك؟ ألا يمكننا أن نقول في هذه الحالة أيضاً إنّه تمّ غزو هذه البلدان؟
ــ أنا لا أوافق على استخدامك كلمة "إمبريالي". لا أحد يتكلّم عن مثل هذه المشكلة من منظور الإمبريالية. هذه سياسة القوى العظمى، وما يريده الروس هو نظام في كييف يتلاءم مع المصالح الروسية. في نهاية المطاف، قد يكون الروس على استعداد للعيش مع أوكرانيا محايِدة، وأن يكون من غير الضروري أن تتمتّع موسكو بأيّ سيطرة فعلية على الحكومة في كييف. قد يكون كلّ ما يبحثون عنه فقط نظاماً محايداً، وغير موالٍ للولايات المتّحدة.

في ما يخصّ دحضك لفكرة الإمبريالية، يتحدّث بوتين في خطاباته بشكل خاص عن "أراضي الإمبراطورية الروسية السابقة"، التي يأسف لخسارتها، لذا يبدو كأنّه هو من يتحدّث عن المسألة من هذه الناحية.
ــ هذا خطأ. لأنّكم تتبنّون الجزء الأول من الجملة، كما يفعل معظم الغربيين. هو قال: "من لا يفتقد الاتحاد السوفياتي هو بلا قلب"، إلّا أنّه أضاف: "من يريد استعادته هو بلا عقل".

وهو يقول أيضاً إنّ أوكرانيا دولة "تمّ خلقها"، ويبدو حالياً أنّه يغزوها، صحيح؟
ــ حسناً، ولكن إذا جمعت هذين الأمرين معاً، قل لي ماذا يعني ذلك؟ أنا لا أعلم. هو يعتقد فعلاً أنّها دولة مُختلقة. وهنا أودّ أن ألفت نظره إلى أنّ الدول جميعها مُختلقة. اسأل أيّ طالب يدرس القومية، وسيخبرك بذلك. نحن من يبتكر مفاهيم الهوية الوطنية هذه. إنها مليئة بكل أنواع الأساطير. لذا، فهو محقّ في ما يتعلّق بأوكرانيا، والأمر نفسه ينطبق على الولايات المتحدة وألمانيا. والنقطة الأكثر أهمية تتمثّل في أنّه يدرك أنه لا يستطيع أن يغزو أوكرانيا ويدمجها مع روسيا الكبرى، أو مع ما يجسّد الاتحاد السوفياتي السابق. هو لا يستطيع القيام بذلك. ما يفعله في أوكرانيا مختلف أساساً، فهو يحاول فصل بعض المناطق، وأخذ بعض الأراضي بعيداً عن أوكرانيا، بالإضافة إلى ما قام به مع شبه جزيرة القرم، في عام 2014. وعلاوة على ذلك، فهو مهتم بالتأكيد بتغيير النظام. أما أبعد من ذلك، فمن الصعب التنبّؤ تحديداً بمسار الأمور، إلا أنّه من المؤكد أنّه لا يريد غزو أوكرانيا كلّها. سيترتّب عن مثل هذا الخطأ أبعاد هائلة.

أنت تعتقد أنّه في حال قام بذلك، فهذا سيبدّل تحليلك لما شهدناه.
ــ طبعاً. تقول حجّتي إنه لن يعيد إنشاء الاتحاد السوفياتي، أو يحاول بناء روسيا الكبرى، وإنه غير مهتم بغزو أوكرانيا ودمجها مع روسيا. من المهم جدّاً أن نفهم أننا اخترعنا هذه القصة عن أنّ بوتين هو عدواني كثيراً، وأنّه هو المسؤول الرئيسي عن الأزمة في أوكرانيا. تتمحور الحجّة التي اخترعتها مؤسّسة السياسة الخارجية في الولايات المتحدة، وفي الغرب عموماً، حول رغبة بوتين المزعومة بإنشاء روسيا الكبرى أو إعادة تأسيس الاتحاد السوفياتي السابق. هناك أناس يعتقدون أنه عندما ينتهي من غزو أوكرانيا، سوف يلجأ إلى دول البلطيق. لن يلجأ إلى دول البلطيق. فأولاً، وقبل كل شيء، دول البلطيق هي عضو في "الناتو"...

هل هذا شيء جيّد؟
ــ لا.

تعتقد إذاً أنّه لن يغزو هذه البلدان لأنّها جزء من "حلف شمال الأطلسي"، إنّما هذه البلدان لا ينبغي أن تكون جزءاً من الحلف.
ــ نعم، لكنْ هاتان قضيّتان مختلفتان تماماً، ولا أعلم لماذا تربطهما معاً.
رأيي حول ما إذا كان يجب أن يكونوا جزءاً من "حلف شمال الأطلسي" غير مرتبط بما إذا كانوا جزءاً من هذا الحلف. إنهم جزء منه، ولديهم ضمانة "المادة 5"، وهذا ما يهمّ. وعلاوة على ذلك، ما من دليل بعد على أنّ بوتين يريد غزو دول البلطيق. في الواقع، ما من دليل على أنّه مهتمّ بغزو أوكرانيا حتى.

يبدو لي أنّه إذا كان يرغب في إعادة أيّ شيء، فستكون الإمبراطورية الروسية قبل الاتحاد السوفياتي. فمن الواضح أنّه من منتقدي الاتحاد السوفياتي بشدّة، أليس كذلك؟
ــ في الواقع، لا أعلم إذا كان من منتقديه.

كتب في مقالٍ طويل، العام الماضي، أنّ اللوم يقع على عاتق السياسات السوفياتية في السماح بتمتّع الجمهوريات السوفياتية السابقة بنوع من الحكم الذاتي، على غرار أوكرانيا، كما أشار إلى ذلك في خطاب جديد.
ــ لكنه قال أيضاً، كما ذكرت، إنّ "من لا يفتقد الاتحاد السوفياتي لا قلب له". وهذا يتعارض إلى حدّ ما مع ما ذكرته للتو. ما نتحدث عنه هنا هو سياسته الخارجية. السؤال الذي يجب أن تطرحه على نفسك هو ما إذا كنت تعتقد أو لا أنّ هذا بلد لديه القدرة على القيام بذلك. أتُدرك أنّ الدخل القومي الإجمالي لهذا البلد أقلّ من تكساس؟

برأيكم، كيف يجب أن تكون سياستنا في أوكرانيا حالياً؟ وما هي الممارسات التي نقوم بها حالياً والتي برأيكم تقوّض سياستنا تجاه الصين؟
ــ أوّلاً، ينبغي أن نتموضع خارج أوروبا للتعامل مع الصين على نحو يشبه تركيز "الليزر". ثانياً، يجب أن نبذل جهداً إضافياً لخلق علاقات وديّة مع الروس. فهؤلاء جزء من ائتلاف التوازن ضدّ الصين. إذا كنت تعيش في عالم حيث هناك ثلاث قوى عظمى، الصين وروسيا والولايات المتحدة، وإحدى تلك القوى العظمى، الصين، هي المنافس "الخالص" لك، فما يجب عليك فعله إذا كنت مكان الولايات المتحدة، هو أن تستميل روسيا إلى جانبك، بغضّ النظر عن الاختلافات. وبدلاً من ذلك، قمنا بدفع الروس، بسياساتنا الحمقاء في أوروبا الشرقية، إلى حضن الصينيين. ويعدّ هذا من بديهيات انتهاك سياسة توازن القوى.

أعدت قراءة مقالك عن اللوبي الإسرائيلي في مجلّة "لندن ريفيو أوف بوكس" البريطانية، الصادرة في عام 2006، والذي تحدثت فيه عن القضية الفلسطينية، وقلت شيئاً أتفق معه كثيراً، عندما كتبت "هنالك بُعد أخلاقي هنا أيضاً. وبفضل ضغط الولايات المتحدة، أصبحت واشنطن المسهّل الفعلي للاحتلال الإسرائيلي في الأراضي المحتلّة، ما يجعلها متواطئة في الجرائم المرتكبة بحقّ الفلسطينيين". فرحت لقراءة ذلك لأنني أعرف أنك ترى نفسك كرجل عجوز قوي وصريح، لا يحبّ التحدّث عن الأخلاق، ولكن بدا لي أنك تشير إلى وجود بعد أخلاقي في هذه الحالة. ينتابني الفضول لمعرفة ما إذا كنت تظنّ أنّ هنالك بعداً أخلاقياً لما يحصل في أوكرانيا حالياً.
ــ أعتقد أن هناك بعداً استراتيجياً وأخلاقياً يتعلّق بكلّ قضية تقريباً في السياسة الدولية. وأعتقد أنّ تلك الأبعاد الأخلاقية والاستراتيجية تتماشى أحياناً مع بعضها البعض. بعبارة أخرى، إذا كنت تقاتل ضدّ ألمانيا النازية، من عام 1941 إلى عام 1945، فأنت تعرف بقية القصة. وهناك حالات أخرى، يتعارض فيها هذان البُعدان، حيث يكون القيام بما هو صحيح استراتيجياً، خطأً أخلاقياً. إذا انضممت إلى تحالف مع الاتحاد السوفياتي لمكافحة ألمانيا النازية، مثلاً، فستكون تلك سياسة حكيمة استراتيجياً، لكنّها سياسة خاطئة أخلاقياً، لكنك تفعل ذلك لأنه ليس لديك أي خيار آخر لأسباب استراتيجية. بعبارة أخرى، ما أقوله لكم، إسحاق، هو أنه عندما نصل إلى الساعة الصفر، فإنّ الاعتبارات الاستراتيجية تطغى على الاعتبارات الأخلاقية. وفي عالم مثالي، سيكون من الرائع أن يكون الأوكرانيون أحراراً في اختيار نظامهم السياسي واختيار سياستهم الخارجية.
ولكن في العالم الحقيقي، هذا غير ممكن. فمصلحة الأوكرانيين الخاصة تقضي بأن يولوا اهتماماً جدياً لما يريده الروس منهم. وهم سيواجهون خطراً جسيماً إذا ما حاولوا عزل الروس.

تبدو هذه النصيحة غير قابلة للتطبيق الآن. أتعتقد أنّه لا يزال هناك وقت لأوكرانيا، على الرغم مما نشهده على الأرض، لاسترضاء روسيا بطريقة ما؟
ــ هناك احتمالٌ جدي أن يكون الأوكرانيون قادرين على خلق نموذج للتفاهم مع الروس، وذلك لأنّ الروس يكتشفون، حالياً، أنّ مشاكل كبيرة تترتّب على محاولة احتلال أوكرانيا ومحاولة إدارة سياستها.

تعتقد إذاً أنّ احتلال أوكرانيا سيكون صعباً؟
ــ بالتأكيد، ولهذا قلت لكم إنني لا أعتقد أنّ الروس سيحتلّون أوكرانيا على المدى الطويل. ولكن، فقط لكي نكون واضحين جداً، قلت إنهم سيأخذون على الأقل دونباس، وعلى أمل ألّا يأخذوا أكثر من الجزء الشرقي من أوكرانيا. أعتقد أنّ الروس أذكى جداً من التورط في احتلال أوكرانيا.

ــ إسحاق تشوتينر: كاتب في صحيفة "ذي نيويوركر"، والمساهم الرئيسي في صفحة "Q. & A." (سؤال وجواب)، والتي تشمل سلسلة من المقابلات مع الشخصيات المعروفة في مجالات السياسة، والإعلام، والكتابة، والأعمال، والتكنولوجيا، وغيرها.