أثار كثُر، عبر وسائل التواصل الاجتماعي، احتمال وصول مقاتلين إسلاميين إلى أوكرانيا، للقتال ضدّ القوات الروسية، سواء من أوروبا أو من الشرق الأوسط، خصوصاً بعد إعلان رئيس الوزراء الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، تشكيل فيلق للمقاتلين الأجانب، مستدعياً ذكريات "الجهاد الأفغاني" ضدّ السوفيات، في ثمانينيات القرن الماضي. ومع أنّ تحقق سيناريو "الجهاد الأوكراني" قد لا يكون بالسهولة ذاتها، لأنّه يتطلّب توافر شروط كثيرة، وأمامه محاذير كثيرة، إلّا أنّ ثمة الكثير من الظروف المماثلة، بين الأمس واليوم، وأهمّها وجود تعاطف إسلامي كبير مع أوكرانيا ضدّ الروس، وزخم أميركي هائل داعم لهذا البلد.النموذج الأفغاني كان حاضراً، حتى قبل بدء الحرب من زاوية الرغبة الأميركية في توريط الروس واستنزافهم، لكنّ العالم تغيّر كثيراً عن تلك الأيام، فلا الريغانية التي مهّدت لصعود أميركا إلى قيادة العالم عادت قائمة، ولا السعودية التي كانت الحلقة الوسيطة الأهم في حرب أفغانستان ضدّ الروس، وتكفّلت بقسم من التمويل وتوفير الخلفية العقائدية للجهاديين بقيت كما هي.
سيفضّل الأميركيون وأتباعهم الأوروبيون الاعتماد أولاً على القوميين الأوكرانيين، لكن هذا قد لا يكفي، خاصة أنّ الصراع، في تبريراته الرئيسية، يقوم على الخلافات بشأن القرم والدونباس، اللذين لا علاقة للقومية الأوكرانية بهما. وكذلك، يتضح للكثيرين في أوكرانيا أن المشاعر القومية ورقة للاستثمار السياسي الخارجي، وللاستغلال من قبل الفاسدين في الداخل، وقبل هذه وتلك، فإنّ المشاعر القومية في العالم كله، تراجعت، أسوة بالإيديولوجيات، مع ظهور التجمّعات الاقتصادية العالمية وتحرير التجارة وفتح الحدود، وهذا ينطبق على أوروبا أكثر من غيرها. ويبقى الحافز الأقوى لدى الأوكرانيين للقتال، هو الوعد بالرخاء في حال الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي و"حلف شمال الأطلسي"، لكن إذا كان المقابل لذلك هو تدمير بلدهم، وعدداً كبيراً من الضحايا والمصابين والمعوقين، مثلما هي حال الحروب الطويلة، فقد يتحوّل الأمر إلى حافز لعدم القتال.
أما إذا فشل مثل هذا الخيار، فقد لا يكون بعيداً عن الولايات المتحدة العودة إلى خيار الجهاد، خاصة أن الجهاد العالمي تلقّى ضربات تكاد تكون قاصمة من أميركا بالذات وخَفُتَ تهديده. ولدى واشنطن من الانتهازية ما يجعلها تفاضِل بين تهديد وآخر، فحين كان التهديد الشيوعي هو الماثل أمامها، لجأت إلى الجهاد الإسلامي ضده، وعندما صار الجهاد هو التهديد، لم يكن لديها مانع من إتاحة الفرصة لروسيا لتوجيه ضربة موجعة للإسلاميين في سوريا. والآن، على عتبة عودة العالم إلى تعدد القطبية، سواء عبر حرب أوكرانيا، أو من خلال تعاظم التهديد الصيني، قد يكون تجرّع دواء التحالف مع الجهاديين مرة أخرى، أحد الحلول.
عادت روسيا عدواً مشتركاً، فهل سيؤدّي ذلك إلى إقامة تحالف جديد أميركي - إسلامي


وعلى رغم الدعاية المعادية للمسلمين التي ضخّتها الآلة الإعلامية الأميركية، منذ 11 أيلول 2001 حتى الآن، إلّا أنّ واشنطن لم تتوقّف أبداً عن استخدام الإسلاميين لتحقيق أهداف محدّدة، فهي رفعت "الإخوان المسلمين" إلى السلطة في أكثر من بلد عربي، بعد الحراكات التي بدأت في تونس أواخر عام 2010، على أساس تنصيب أنظمة مستقرّة، تخلف الأنظمة العسكرية المتهالكة القائمة على فرض حالات الطوارئ، لتخدم المصلحة الأميركية. كما يشير اتهام الرئيس السابق دونالد ترامب لإدارة سلفه باراك أوباما بخلق تنظيم "داعش"، إلى وظيفة أميركية ما لهذا التنظيم. لكنّ الطبيعة السرية للتحالف الأميركي مع التيار الإسلامي، تفرض صعوداً وهبوطاً في العلاقة، التي كانت تصطدم أحياناً بحقائق ليس سهلاً القفز فوقها، من مثل الدعم الأميركي المطلق لإسرائيل، والتسليح الأميركي للأنظمة العربية، ولا سيما الخليجية، التي تقمع الإسلاميين، والتي هي الأخرى لها طريقتها الخاصة في التعامل معهم، خاصة حين يمثلون تهديداً لها.
من حرب أفغانستان، إلى يوغوسلافيا والشيشان، الأمثلة كثيرة على التحالف الأميركي مع الإسلاميين، لكنّ الحرب السورية بالذات، رسمت حدوداً لتلك العلاقة. وأهم ما كشفته هو الاستعداد الكبير لدى أولئك للتحالف مع واشنطن، ولومها لأنّها لم تدعمهم بما يكفي لإسقاط النظام في دمشق، مقابل تردّد واشنطن، بل إتاحة المجال لروسيا لتوجيه ضربة كبيرة لهم، على رغم تقديمها أنواعاً مختلفة من المساعدة لهم، خاصة في بدايات الحرب. الآن، عادت روسيا عدواً مشتركاً، فهل سيؤدي ذلك إلى إقامة تحالف جديد أميركي - إسلامي، ما يُترجم قتالاً ضد الروس في أوكرانيا، لتصبح أرض الجهاد الجديدة؟
الحلقة الأساسية المفقودة للعودة إلى تحالف كهذا هي السعودية، التي آثرت حتى الآن الصمت إزاء ما يحدث، وهو بحد ذاته موقف. فالرياض تقاربت في السنوات الأخيرة كثيراً مع روسيا، وهذا لا يمكن تبريره فقط بالخلاف بين ولي العهد محمد بن سلمان وإدارة الرئيس جو بايدن، إذ إن العلاقة التاريخية بين البلدين صارت جدلية في الداخل الأميركي، إلى حدّ يمكن القول إنّ غالبية الأوساط السياسية الأميركية والنخب المعنية تكره السعودية، وفي المقابل، ثمّة غضب سعودي قديم غير خافٍ ضد الأميركيين، أاضطرّ معه الأخيرون في منتصف تسعينيات القرن الماضي لإخلاء قواعدهم في المملكة، والانتقال إلى أماكن أخرى في الخليج، ولا سيما قاعدة العُديد في قطر.
ابن سلمان الذي يرفض، كما يبدو حتى الآن، تغيير سياسته النفطية في "أوبك بلاس" القائمة على تفاهم مع الروس على مستويات الإنتاج، بما دفع أسعار النفط إلى تجاوز المئة دولار للبرميل، ما يضرّ كثيراً بالاقتصادات الغربية، يتّخذ موقف الانتظار لتحيّن الفرص. وإذا كان سيتحالف مع الأميركيين، فإنه بلا شك يريد منهم ثمناً كبيراً لذلك، وإلا فإن مصلحته تبقى مع الرئيس فلاديمير بوتين الذي يوفر الاتفاق معه، على الأقل، تعبئة الخزائن السعودية بالأموال التي ستكون ضرورية في استخدامها لترتيب حكم ولي العهد، حين يحين الموعد لذلك.
على الجانب الأوكراني، الخيارات ليست كثيرة أمام زيلينسكي، الذي يدرك أنّ القوميات لا يحارب بعضُها عن بعض، فلن يأتي مقاتلون لدعمه على أسس قومية، كما أنّ زمن مقاتلي المرتزقة ولّى. ولذلك، عندما أعلن تشكيل لواء الأجانب، كان في باله المقاتلون الإسلاميون، سواء في أوروبا أو في الشرق الأوسط، ولا سيما ذلك الخزان من المقاتلين الذين تضيق بهم مدينة إدلب السورية، بعدما جيء بهم من كل سوريا ليُحشروا فيها، بلا عمل الآن، نظراً إلى توقف القتال.
في كل الأحوال، يبقى التماثل الأكبر بين "الجهاد الأفغاني" وما قد تتقاطع الظروف على تحويله إلى "جهاد أوكراني"، وصول طلائع صواريخ "ستينغر" التي لعبت دوراً كبيراً في حرب أفغانستان الأولى، إلى أوكرانيا.