كلّما جرى الحديث عن نزاع بين روسيا وأوكرانيا، عسكرياً كان أم سياسياً، تُثار فوراً قضية تصدير الغاز الروسي إلى أوروبا عبر هذا البلد، الذي صار يمثّل نقطة الاشتباك الرئيسة الأميركية - الروسية في عالم ما بعد الحرب الباردة، حيث لا يهدأ السعي الأميركي إلى ضمّ دول محاذية لروسيا إلى حلف «الناتو»، وفي المقابل منع موسكو من كسب نفوذ في أوروبا من خلال مشروع «السيل الشمالي 2». ويَلقى هذا المشروع، الذي أعلنت ألمانيا تعليقه ردّاً على تطوّرات الأزمة الأوكرانية، معارضة أميركية شرسة، ضمن سياسة واشنطن للتحكّم بشكل أكبر بسوق الغاز العالمية. وهي سياسة لا تفتأ تشهد تحوّلات كان أحد مظاهرها التخلّي عن دعم المشروع الإسرائيلي - اليوناني لإقامة «خطّ أنابيب شرق المتوسّط» (إيست ميد)، والنشاط الأميركي المتزايد لرعاية المفاوضات غير المباشرة حول ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وفلسطين المحتلة
إذا كانت للأزمة الأوكرانية المشتعلة حالياً أسبابها السياسية المتعلّقة بسعي الولايات المتحدة إلى تطويق روسيا بـ«الناتو»، الأمر الذي تقاومه الأخيرة بكلّ قوة، فإن موضوع الغاز وإمداداته إلى أوروبا يكاد يكون أحد أخطر أسباب هذه الأزمة وعوارضها على السواء. وقد يكون للإمساك به دور كبير حتّى في حسم الصراع السياسي والعسكري في تلك المنطقة، بخاصة أن الغاز يحتلّ بشكل متزايد دوراً أكبر في قطاع الطاقة العالمي، مع تطوّر تقنيات تسييله وتصديره عبر السفن، باعتباره أرخص وأقلّ تلويثاً من النفط. فمن المعارضة الشرسة لمشروع «خطّ السيل الشمالي 2» لإيصال الغاز الروسي مباشرة إلى ألمانيا، والذي ينفي الحاجة إلى خطّ متهالك مارّ عبر أوكرانيا لطالما استخدمته الأخيرة في معرض الابتزاز، إلى سحب التأييد للمشروع اليوناني - الإسرائيلي لنقل غاز المتوسّط إلى القارّة الأوروبية عبر «خطّ أنابيب شرق المتوسّط»، مروراً بتنصيب قطر قائداً لتجارة الغاز في العالم، ثمّة خيط يربط السياسات الأميركية في ما يتعلّق بسوق الغاز، التي تُعتبر السيطرة الأميركية عليها، أضعف بكثير من سيطرة واشنطن على سوق النفط عبر «أوبك»، على رغم المشاكل التي صارت تواجهها الولايات المتحدة بعد توسيع «أوبك» إلى «أوبك+» لتضمّ روسيا بالذات، وبروز تمرّد سعودي على الأميركيين داخل المنظّمة، سببه العلاقة الرديئة بين وليّ العهد السعودي محمد بن سلمان، والرئيس الأميركي جو بايدن.
على هذه الخلفية، جاء انعقاد «قمّة منتدى الدول المُصدّرة للغاز» في قطر خلال الأيام الثلاثة الماضية، بمشاركة بارزة للرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي، واستعاضة الرئيس فلاديمير بوتين عن المشاركة شخصياً ببعث رسالة إلى أمير قطر تميم بن حمد، وقبل ذلك الزيارة التي قام بها تميم إلى واشنطن، وجرى خلالها إعلان بلاده حليفاً رئيساً للولايات المتحدة من خارج «الناتو»، والطلب منها تأمين بديل لإمدادات الغاز الروسي إلى أوروبا، والتي تمثّل 18 في المئة من احتياجات القارّة، في حال اندلاع صراع عسكري بين روسيا وأوكرانيا، فيما تؤمّن قطر بالفعل حالياً 21 في المئة من احتياجات أوروبا الغازية. المنتدى، الذي يضمّ 11 دولة أبرزها روسيا والصين وإيران إلى جانب قطر والجزائر ونيجيريا، وساهمت طهران مع موسكو في تأسيسه، ليس تجمّعاً لحلفاء الولايات المتحدة، كما هي حال «أوبك»، لكن قطر، كما تُثبت أدوارها السياسية والاقتصادية في الشرق الأوسط وخارجه، مكلَّفة أميركياً بالمساعدة في حلّ خلافات واشنطن مع أعدائها، لا مع حلفائها.
اختلاف الأهداف على المستوى العالمي، لا يمنع تعاوناً ثنائياً إيرانياً - قطرياً في موضوع الغاز


كما أن أهمية المنتدى تأتي من كون دوله، تسيطر على 70 في المئة من إنتاج الغاز العالمي، بالتالي هو يتيح إطلالة كبيرة لإيران التي تمتلك ثاني أكبر احتياطي عالمي مؤكّد للغاز بعد روسيا، على سوق الغاز العالمية، بهدف مغاير للمآرب القطرية الخاصة، لا سيما أن المستهدَف بالرسائل الأميركية - القطرية هو بوتين، الذي تجد إيران نفسها في موقع الحليف له في الأزمة الأوكرانية، ولو لمجرّد أن الأطراف المخاصِمة للرئيس الروسي في تلك الأزمة هي نفسها الأطراف التي تفرض عقوبات على إيران بسبب ملفّها النووي، وفي الوقت ذاته تُفاوضها عليه. لكن اختلاف الأهداف على المستوى العالمي الأوسع، لا يمنع تعاوناً ثنائياً إيرانياً - قطرياً في موضوع الغاز وغيره، خصوصاً أن ثمّة حقلاً غازياً مشتركاً بين البلدَين، هو حقل فارس الجنوبي، يفرض تعاونهما في إنتاجه وتقاسم عائداته. ولقطر في المقابل، وهي حالياً رابع أكبر منتج للغاز في العالم، بعد أميركا وروسيا والصين، وثاني أكبر مصدّر، بعد أستراليا، ويمكن أن تصبح عام 2026 أكبر مصدّر ومنتج في العالم، حساباتها الخاصة الأمنية والسياسية في العلاقة مع أميركا.
وأظهرت تطوّرات الأشهر الماضية تحوّلاً أميركياً كبيراً في ما يتعلّق بموضوع الغاز، تَمثّل أوضح تجلّياته في إرسال وزارة الخارجية في مطلع العام الحالي رسمياً، رسالة إلى اليونان وإسرائيل تبلغهما فيها بتخلّيها عن دعم مشروع «خطّ أنابيب غاز البحر المتوسط» (إيست ميد) الذي كان يمثّل «حلماً» يونانياً وإسرائيلياً بالاستفادة من تصدير الغاز إلى أوروبا، ما يعني حُكماً تبنّيها موقف تركيا المعاكس تماماً في هذا الشأن. وكان يفترض أن يمثّل الخطّ المذكور أحد بدائل الغاز الروسي إلى أوروبا، لكن يبدو أن لليونان وإسرائيل حسابات مختلفة عن تلك التي للولايات المتحدة. فهما كانتا قد اصطفّتا في موقع متمايز عن الاصطفاف الأميركي في المنطقة، بتحالفهما، سياسياً وأمنياً، مع السعودية والإمارات، حتى أن أثينا وفّرت للسعودية بطاريات صواريخ «باتريوت» بديلاً من البطاريات التي سحبتها الولايات المتحدة من المملكة في الأشهر الماضية. وفي النتيجة، أُطلقت حملات سعودية على «تويتر» لتشجيع السياحة السعودية إلى اليونان، بديلاً للسياحة السعودية إلى تركيا، وهو ما قابله اليونانيون بوضع لافتة ترحّب بالسياح السعوديين عند الأكروبول، الذي لم يسبق لكثير من سكّان المملكة أن سمعوا به.
ليس بعيداً من ذلك أيضاً، تأتي الوساطة الأميركية الحصرية التي صارت محمومة أخيراً في المفاوضات غير المباشرة بين لبنان والعدو الإسرائيلي حول ترسيم الحدود البحرية. فالترسيم البحري، في المنظور الأميركي، ليس حاجة أمنية لإسرائيل، وإنّما له أهداف أخرى تندرج في سياق فرض سيطرة أميركية أقوى على سوق الغاز العالمية إنتاجاً وتصديراً، وإبعاد روسيا وشركاتها عن هذه المنطقة. هل من رابط بين هذا المسعى وبين الإعلان اللافت لوزير الدولة القطري لشؤون الطاقة، سعد الكعبي، على هامش منتدى الغاز، أمس، عن أن الدوحة تعمل على دعم لبنان بإمدادات طاقة على المدى الطويل باستخدام الغاز الطبيعي المسال، بخاصة أنه أشار إلى أن بلاده «على دراية وسعيدة بحلّ مصر القصير المدى»، والذي لم يأتِ إلّا بدفع أميركي؟ ذلك ما سيتّضح في المرحلة المقبلة.