تسجّل السياسة الخارجية التركية، منذ فترة، انعطافة واضحة، في أكثر من اتجاه. وإذا كانت ملامح هذه الانعطافة الجديدة تتمظهر في العلاقات مع الإمارات وإسرائيل، في ظلّ احتمال فتح الأبواب مع السعودية ومصر وأرمينيا، فالواضح أيضاً أن من سماتها، في المرحلة المقبلة، «الانتقائية»؛ إذ لا يشير المسؤولون نهائياً إلى أيّ رغبة في فتح صفحة جديدة في العلاقات مع الدولة الأهمّ للأمن القومي التركي، وهي سوريا، الأمر الذي يُبقي الحركة التركية ناقصة. كما أن ما يثير الخشية، هو أن تنعكس العلاقات المتجدّدة مع إسرائيل تشديداً للخناق على سوريا، في عودة إلى مناخات ما قبل «اتفاقية أضنة»، في التحالف بين أنقرة وتل أبيب.وفي هذا السياق، رأى برهان الدين دوران، رئيس مركز «سيتا»، المقرّب جدّاً من الرئيس رجب طيب إردوغان، والذي رافقه في زيارته الإماراتية، أن تركيا تسير بسرعة نحو تغيير مسارها في السياسة الخارجية. وقال إنه عندما كان إردوغان في زيارته الفخمة للإمارات، عَلم أن الرئيس الإسرائيلي، إسحاق هرتزوغ، سيزور تركيا، يومَي 9 و11 آذار المقبل، كما أن السعودية ستشارك في منتدى أنتاليا، الشهر المقبل، وستكون مشاركتها ذروة التغيير في المشهد الخارجي. وأشار دوران إلى أن التقارب مع كلّ من الإمارات وإسرائيل تحديداً، يكسر مشهد العزلة الخارجية الذي تَشكّل حول تركيا. إلّا أنّه توقّف عند نقطة اعتبرها محور الحركة السياسية الخارجية لأنقرة، وهي أن الأخيرة دون غيرها قادرة على «ملء الفراغ» في الخليج، بمواجهة إيران.
ولفت إلى أن الانسحاب الأميركي من أفغانستان فتح الباب أمام ثلاثة مسارات من المصالحات: المصالحة الإيرانية ــــ السعودية، «المصالحة» الإسرائيلية مع الدول العربية، والمصالحة بين تركيا وكلّ من الإمارات وإسرائيل. وإذ ذكّر بكلام إردوغان عن أن أمن الخليج، ولا سيما الإمارات، جزء من الأمن القومي التركي، فقد وصف هذا الكلام بأنه «غير معتاد». ورأى أن الإمارات تركت سياستها القديمة بعدما «أدركت أهمية تركيا ودورها في تثبيت الأمن والاستقرار في المنطقة»، بعد محاربتها «داعش» وأكراد سوريا، واتفاقها مع حكومة فايز السراج في ليبيا، وانتصارها في قره باغ وتمكّنها من حماية قطر. «لقد أدركت الإمارات، الآن، أهمية تركيا، في التكنولوجيا والطاقة والصناعات الدفاعية». ومن جهة أخرى، توقّف دوران عند العامل الإيراني، مشيراً إلى أن قرب التوصّل إلى اتفاق أميركي مع طهران، يقرع جرس الإنذار في الدول الخليجية، التي ترى أن الاتفاقيات مع إسرائيل وحدها غير كافية لمواجهة «الخطر الإيراني»، وخصوصاً أنها تعرّضت لصواريخ «الحوثيين» من اليمن. لذا، تعتقد هذه الدول أن «تركيا وحدها القادرة على ضمان التوازُن، من خلال دورها في ضمان الأمن والاستقرار، كما أنها مرشّحة لتكون اللاعب الأول على هذا الصعيد».
من جهته، قال مراد يتكين إن زيارة إردوغان لأبو ظبي طوت صفحة تسع سنوات من النزاع والاتهامات، بينه وبين محمد بن زايد. وأشار إلى أن أهمّ ما نتج من الزيارة، هو شراء الإمارات طائرات «بيرقدار TB2»، من أجل مواجهة التهديد الإيراني في الخليج. وإذ رأى أن أكثر ما لفت النظر في الزيارة، هو أنه أثناء وجود إردوغان في أبو ظبي تلقّى خبر تحديد تاريخ زيارة هرتزوغ لتركيا، فقد لفت إلى أن تركيا استبقت توجّه رئيسها إلى الإمارات، بخبر إلقاء القبض على شبكة تجسّس إيرانية، كانت تخطّط لاغتيال يائير غالر، الذي يحمل الجنسيّتين التركية والإسرائيلية، والذي «كان سيكون اغتياله انتقاماً لاغتيال العالم النووي الإيراني، محسن فخري زادة». حتى إن صحيفة «شالوم» التركية، الناطقة باسم الجماعة اليهودية، نشرت خبراً يفيد بأن الاستخبارات التركية، بالتعاون مع «الموساد»، أحبطت 12 عملية اعتداء على إسرائيليين في تركيا، من قِبَل الاستخبارات الإيرانية.
لم تمرّ زيارة إردوغان للإمارات ومعها إعلان زيارة هرتزوغ من دون أن يثيرا تساؤلات المعارضة


وفي الواقع، عرف التقارب التركي ــــ الإسرائيلي محطّة مهمّة، من خلال الزيارة المفاجئة التي قام بها المتحدّث باسم الرئاسة التركية، إبراهيم قالين، والمدير العام لوزارة الخارجية، سادات أونال، لإسرائيل والضفة الغربية المحتلّة. وأبرزت صحيفة «يني شفق» الموالية لإردوغان، هذه الزيارة والاجتماعات التي عقدها قالين وأونال في تل أبيب مع المسؤولين في وزارة الخارجية الإسرائيلية، يوم الجمعة الماضي. وبدا المسؤولان التركيّان، كما أعضاء الوفد الإسرائيلي، في غاية السرور والانشراح، وخصوصاً عندما فاجأ الرئيس الإسرائيلي المجتمعين بدخوله عليهم، ومشاركته في جزءٍ من المحادثات، في لفتة بالغة الدلالة على ملامح المرحلة المقبلة من العلاقات الثنائية. وفي هذا الإطار، رأى يتكين أن تطوير العلاقات التركية مع كلّ من الإمارات وإسرائيل، يأتي في إطار تخلّي أنقرة عن سياستها أثناء «الربيع العربي» في الشرق الأوسط، مضيفاً إن ذلك يعني أن سياسة تركيا في المنطقة لن تبقى رهينة العامل «الإخواني»، بعد الآن. لكن يتكين اعترف، أيضاً، بأن من بين عوامل التحوُّل في السياسات التركية، الوضع الاقتصادي الصعب. كما أشار إلى أن الأزمة الأوكرانية ذكّرت الغرب بأهمية أنقرة لمصالحه. وتابع أنه، بعد الإمارات وإسرائيل، يُتوقّع أن تكون مصر والسعودية، التاليتَين في سياسة تركيا الجديدة في المنطقة.
بدورها، رأت كوبرا بار، في صحيفة «خبر تورك»، أن السياسة الجديدة تريح يد تركيا في المنطقة. ولفتت إلى أن استقبال إردوغان في «قصر الوطن» الإماراتي، كان فخماً إلى درجةٍ لم يكن يتوقّعها الوفد التركي. لكن ما الذي تغيّر بين ليلة وضحاها؟ يجيب مسؤول في الوفد التركي: «كما يقول (الفيلسوف النمسوي لودفيغ) فيتغنشتاين، فإن بعض القضايا لا تُحلّ، ولكنها لا تعود ظاهرة». وفي هذا السياق، قالت بار إن لتركيا أسبابها في الانفتاح، ومن بينها الخروج من سياسة العزلة التي هي فيها، كما الحاجة إلى الاستثمارات الخارجية في الاقتصاد، وهذا لا ينطبق فقط على الانفتاح على الإمارات، بل كل الدول الخليجية الأخرى، وغير الخليجية، ومنها السعودية وإسرائيل ومصر، كما أرمينيا. أما بالنسبة إلى الإمارات، فإن انفتاحها على تركيا، جاء بسبب الحاجة إلى تطوير دور جديد واقعي، في مرحلة ما بعد دونالد ترامب، وخصوصاً أن سياسات حصار قطر فشلت، كما محاولات إطاحة إردوغان. وأضافت بار إن مختصر سياسة إردوغان الجديدة هو أن يدخل عام 2023، أي عام الانتخابات الرئاسية، وقد تضاءل عدد جبهات التوتُّر الخارجية. كما أن الاستثمارات الخليجية المتوقّعة ستجعل البلاد تدخل مرحلة اقتصادية مختلفة، تُقلّل من الأزمات الحالية.
ولم يخرج إبراهيم قره غول، المقرّب من إردوغان، عن سياق الترويج للانفتاح التركي على الإمارات وإسرائيل، إذ قال إن «اللعبة الخارجية ضدّ أنقرة انفجرت في يد أصحابها». وأشار قره غول، في صحيفة «يني شفق»، إلى أن الجبهة المُعادية لتركيا وإردوغان، تشكّلت من الإمارات والسعودية ومصر وفرنسا والولايات المتحدة وإسرائيل، على امتداد منطقة الشرق الأوسط. وتابع أن «الانسحاب الأميركي من أفغانستان، وسعي روسيا والصين لملء الفراغ في الشرق الأوسط، أصاب الدول المذكورة بالذعر. فكان الانهيار لجبهتها والتوجّه إلى تركيا، التي بصبرها وهدوئها، تلقّت المبادرة وأيّدتها. هم غيّروا في سياساتهم، وليس تركيا».
على الضفّة المقابِلة، لم تمرّ زيارة إردوغان للإمارات، ومعها إعلان زيارة هرتزوغ لتركيا، من دون أن يثيرا تساؤلات المعارضة وشكوكها. إذ طلب رئيس حزب «الديموقراطية والتقدّم»، علي باباجان، من إردوغان «تصريحاً يوضح فيه فقط لماذا هذا الانفتاح على الإمارات، الدولة الملطّخة يداها بعشرات الشهداء، خلال محاولة الانقلاب في 15 تموز 2016». كذلك، قال عاكف باقي، في صحيفة «قرار»، إن إردوغان «لطالما اتّهم أبو ظبي بأنّها عدو أنقرة، والمموّل لمحاولة إطاحته. فما الذي تغيّر حتّى تصبح الإمارات دولة شقيقة؟ولماذا تَخاصم إردوغان معها؟ ولماذا عاد وتصالح معها، وهو الذي رفع شعار «قف منتصباً ولا تنحنِ؟ وما هو ثمن هذه العودة عن هذه السياسات؟». وقال باقي إن «إردوغان مدينٌ للأمّة بالإجابة عن هذه التساؤلات، وخصوصاً أنه لا وجود في السياسة لجمعيات خيرية».