منذ بداية العام الجاري، ينشغل المستويان الأمني والسياسي في تل أبيب بمحاولة فهم حقيقة الموقف الروسي من العمليات الجوية الإسرائيلية في سوريا، وخصوصاً في ضوء تكشّف استياء موسكو من تلك العمليات بشكل تدريجي، بدءاً بما نشرته وسائل الإعلام الروسية حول "مبالغة" إسرائيلية في الاعتداء على سوريا، وتعريض أرواح الجنود الروس للخطر، وصولاً إلى تسيير دوريات مؤلّلة وراجلة في ميناء اللاذقية، وتثبيت نقطة للشرطة العسكرية الروسية فيه، بالإضافة الى إعلان تسيير دورية جوّية سورية ــــ روسية على طول الحدود مع الجولان المحتل. ومع استهداف العدو بصواريخ أرض ــــ أرض، بلدة زاكية في ريف دمشق الجنوبي، القريبة جداً من الكسوة التي استهدفها بالطائرات قبل نحو 10 أيام، يَظهر أن ثمّة تغيّراً في السلوك الإسرائيلي، الذي يبدو أكثر انضباطاً وحذراً في سوريا، كلّما اشتدّت الأزمة في أوكرانيا.
شبه إجماع
أدرج الإسرائيليون التحوّل الروسي الأخير في سوريا ضمن سياقَين أساسيين: الأول، يتعلّق باستهداف ميناء اللاذقية في الشهر الأخير من العام الفائت، والإحراج الذي وقعت فيه موسكو أمام القيادة السورية بفعل ذلك، والذي دفعها إلى القيام بخطوات تثبت قدرتها على كبح جماح الإسرائيليين؛ أمّا الثاني، فهو سياق دولي أوسع يتعلّق بالتوتُر بين موسكو وواشنطن، في ظلّ الأزمة الأوكرانية التي تزداد حدّة، حيث يعتقد الصهاينة أن الروس يمكن أن يكونوا قد قرّروا اللجوء إلى استخدام الورقة الإسرائيلية، لتسليط مزيد من الضغط على الأميركيين. ومع مرور الوقت، تراكمت لدى العدو مؤشّرات عسكرية واستخبارية إضافية، من شأنها ترجيح السياق الثاني، الذي تَشكّل في تل أبيب شبه إجماع حوله، على رغم تجنّب المسؤولين الرسميين الحديث عنه بناءً على توجيهات رئيس الحكومة، نفتالي بينت، الذي يتعاطى مع تطورات الأزمة الأوكرانية وتبعاتها بحذر شديد.

يمكن لبوتين أن يسمح للأسد بالبدء في استخدام نظامه الصاروخي المضادّ للطائرات من طراز S-400 (أ ف ب)

وفي هذا السياق، كشفت صحيفة "يديعوت أحرونوت"، في وقت سابق، أن التقديرات السائدة داخل المؤسسة العسكرية الإسرائيلية هي أن "إعلان وزارة الدفاع في موسكو عن دوريات مشتركة بين الطيران الحربي السوري والروسي، بما في ذلك على حدود إسرائيل من ناحية الجولان، على صلة بالتوتر بين واشنطن وموسكو". وأضافت الصحيفة إن "المؤسسة العسكرية الإسرائيلية أوفدت ضبّاطاً كباراً إلى موسكو، لبدء حوار واستبيان طبيعة الدوريات المشتركة بينها وبين الطيران السوري، ومدى تأثيرها على الغارات الإسرائيلية التي تستهدف مكافحة الوجود الإيراني في سوريا"، من غير أن تتضّح نتائج الحوار لاحقاً. من جهتهما، أكد كلّ من الرئيس السابق لجهاز الاستخبارات العسكرية ــــ "أمان"، الجنرال عاموس يادلين، والباحث الاستراتيجي في جامعة ريخمان، أودي أوفينتال، في تقدير مشترك نشره موقع "القناة 12" العبرية، أن "حيثيّات تطورات أزمة أوكرانيا أظهرت مساعي روسية لإيصال رسائل إلى الولايات المتحدة على حساب إسرائيل، بطريقة قد تهدّد حرية عمل الجيش الإسرائيلي في سوريا تحديداً"، معتبرَين أنه "في ظل أزمة عالمية حادة، من المتوقع أن تقوم الولايات المتحدة بالطلب من إسرائيل أن تدعم مواقفها بوضوح، ومن دون مواربة، وفي هذه الحالة ستكون إسرائيل أمام أزمة جديدة مع روسيا، وهو ما لا تسعى إليه البتّة".

خيارات روسية
قبل نحو 10 أيام، شنّت طائرات العدو غارات جوية على جنوب دمشق، حيث حاولت الدفاعات الجوية السورية التصدّي لها، وأطلقت نحوها صواريخ اعتراضية، وصل واحد منها إلى سماء فلسطين المحتلة، ما دفع العدو إلى استهداف المنصّة الدفاعية التي أطلقت الصاروخ، لكن بصواريخ أرض ــــ أرض، أُطلقت من الجولان المحتل. في اليوم التالي، قال نائب مدير "مركز حميميم" الروسي، اللواء أوليغ جورافليوف، في بيان، إن "4 مقاتلات تكتيكية للقوات الجوية المسلحة الإسرائيلية من نوع F-16، نفّذت، من دون عبور حدود الدولة السورية، ضربة بصواريخ موجهة في منطقة الكسوة بمحافظة دمشق". وأضاف جورافليوف إنه "تم تدمير 8 صواريخ بوسائل الدفاع الجوي روسية الصنع التي تُستخدم في خدمة القوات المسلحة السورية". ويستبطن البيان الروسي رسائل تحذير غير خافية إلى إسرائيل؛ أولاً من خلال الإشارة إلى أن الصواريخ الروسية الموجودة لدى الجيش السوري ذات فعالية في حال أُجيد استعمالها وتوجيهها بمساعدة الروس الذين يمتلكون الرادارات المتطوّرة ويحكمون قبضتهم على الأجواء السورية، وثانياً عبر التلميح إلى أنهم يستطيعون تزويد الدولة السورية بمزيد من الصواريخ التي تناسب منظومات الدفاع الجوي السورية، وهذه بالمناسبة يمكن أن تكون صواريخ مطوّرة ومعدّلة تتمتّع بأداء أفضل بمراحل من الصواريخ التقليدية التي يستخدمها الجيش السوري حالياً. وفي مقالته أمس في "هآرتس"، قال يوسي ميلمان، إنه في حال انضمام إسرائيل الى الحلف الغربي ــــ الذي هي فيه أصلاً ــــ بقيادة واشنطن، للضغط على موسكو عبر العقوبات وإجراءات أخرى، فإن الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، "لديه الكثير من الطرق للانتقام البارد، على سبيل المثال يمكن أن يسمح للأسد بالبدء في استخدام نظامه الصاروخي المضادّ للطائرات من طراز S-400، ما يحرم القوات الجوية الإسرائيلية من حرية العمل فوق سماء سوريا".
وخلال الشهر الماضي، اشتكى الطيّارون الإسرائيليون المدنيون، على مدى أكثر من أسبوع، من مشكلات كبيرة يواجهونها أثناء محاولتهم الهبوط في مطارات الأراضي المحتلة، وأوّلها مطار بن غوريون. وبعد أيام، تبيّن أن أنشطة الجيش الروسي في سوريا، أدّت إلى تشغيل أنظمة دفاعية متطورة وقوية، تسبّبت بتعطيل الموجات الكهرو ــــ مغناطيسية في المنطقة، والذي أحدث بدوره اضطرابات شديدة في نظام "GPS" الذي تعتمد عليه الطائرات في تحديد المواقع. وبحسب مصدر أمني، تحدث حينها إلى قناة "كان" الرسمية، فإن "هذه الظاهرة ليست جديدة وحصلت في سنة 2019. وفي حينه، توجهت إسرائيل إلى روسيا متذمّرة، لكن الجانب الروسي ردّ بأن تلك الأنظمة تهدف إلى حماية جنوده، ولا يستطيع الاستغناء عنها". لكن الظاهرة المُشار إليها عادت واختفت طوال ثلاث سنوات، فيما يُعتقد في تل أبيب أن عودتها اليوم مرتبطة بالدوريات الجوية المشتركة التي بدأها الروس مع سلاح الجو السوري، وفي ذلك أيضاً إشارة الى ما يمكن أن تفعله روسيا للتشويش على إسرائيل، وعرقلة عملياتها العسكرية في سوريا.
وللدلالة على أهمية الساحة السورية بالنسبة إلى الروس، في عزّ الأزمة مع الغرب حول أوكرانيا، وفي أكثر اللحظات حرجاً، حطّ وزير الدفاع الروسي، سيرغي شويغو، يوم الثلاثاء، في سوريا، في زيارة غير معلن عنها مسبقاً، تفقّد خلالها أبرز وحدات بلاده العسكرية، والتقى الرئيس السوري، بشار الأسد. وأشرف شويغو، أثناء الزيارة، على تدريبات البحرية الروسية في طرطوس، والتي شاركت فيها أكثر من 140 سفينة حربية، وأكثر من 60 طائرة، ونحو 10 آلاف عسكري. وخلال التمرين، تمّت محاكاة إجراءات البحث عن غوّاصات معادية، وفرض السيطرة على الملاحة في البحر الأبيض المتوسط وعلى حركة الطائرات فوقه.

تحدّيات مركّبة
بالإضافة الى التحدّي الاستراتيجي الذي تواجهه إسرائيل اليوم بفعل الصراع الروسي ــــ الأميركي في أوكرانيا، والمفتوح على العديد من الاحتمالات التي تُعدّ جميعها سيئة لإسرائيل، ثمّة تحدّيات أخرى تفرضها أطراف معادية لتل أبيب، كإيران و"حزب الله"، ستتعاظم بفعل تداعيات الأزمة الأوكرانية على العلاقة الروسية ــــ الإسرائيلية على الساحة السورية. وفي هذا الإطار، يعتقد يارون شنايدر، معلّق الشؤون العربية في القناة "الـ 12" الإسرائيلية، أن "لدى الأسد تصميماً على الردّ على الهجمات الإسرائيلية، عبر تفعيل الدفاعات الجوية".
سرعان ما ستجد إسرائيل نفسها أمام تحدّي الاختيار بين روسيا والولايات المتحدة والغرب

كذلك، تحدثت بعض وسائل الإعلام الإسرائيلية عن "قلق" تعيشه المؤسّسة الأمنية في تل أبيب، "من محاولات الإيرانيين إدخال المسيّرات ومنظومات دفاع جوي جيّدة من إنتاج إيران إلى المنطقة". وأشارت إلى أنه "في الفترة الأخيرة يلاحظون في المؤسّسة الأمنية الإسرائيلية محاولات للإيرانيين من أجل إدخال سلاحين مُقْلقين إلى المنطقة، الأول هو الطائرات المسيّرة الانتحارية، والثاني منظومات دفاع جوية من إنتاج إيراني ولديها قدرات جيدة"، مضيفة إن "المشكلة هي أن هذه المنظومات تجب دراستها، وهي تحتاج إلى معلومات استخبارية وتقنية لمعرفة كيفية التعامل معها بشكل صحيح". وبحسب ميلمان في "هآرتس"، فإن "من الممكن أن يسمح بوتين لإيران وحزب الله بزيادة شحنات الأسلحة، وخاصّة تلك المتعلّقة بتحسين دقة الصواريخ"، وهذا تحدّ جديد مركّب، لطالما اعتقدت إسرائيل أنها بتنسيقها مع روسيا، وتقاطع مصالحهما، يمكنها الحدّ من تأثيراته الى حد بعيد.

لا مفرّ
يوم أمس، استدعت الخارجية الأوكرانية السفير الإسرائيلي في أوكرانيا لـ"التوبيخ"، بعدما طلبت تل أبيب من موسكو المساعدة في إجلاء الإسرائيليين في حال غزت القوات الروسية الأراضي الأوكرانية. وعلى رغم محاولات إسرائيل الحثيثة لتجنّب الانحياز إلى أحد طرفي الصراع، إلا أنها لن تستطيع على ما يبدو البقاء على "الحياد" طويلاً، إذ سرعان ما ستجد نفسها أمام تحدّي الاختيار بين روسيا ومصالحها معها في الشرق الأوسط، وبشكل خاص سوريا، والولايات المتحدة والغرب ومصالحها الاستراتيجية والعضوية والبنيوية معهم. "لن تكون إسرائيل قادرة على السير على خطّ رفيع بين الجانبين هذه المرّة (نجحت في ذلك في أزمتَي جورجيا والقرم)، فإذا اندلعت الحرب لن تكون قادرة على تجنّب الانضمام إلى الغرب من دون الإضرار بتحالفها الاستراتيجي مع الولايات المتحدة، لأن القيام بذلك ستعتبره واشنطن خيانة لا تُغتفر". كما "ليس هنالك شكّ في أن بوتين سينظر إلى انضمام إسرائيل إلى جبهة غربية ضدّ روسيا بشكل سلبي"، يختم يوسي ميلمان مقالته.