يختزن الاسم الذي أطلقته إيران على مناوراتها العسكرية على الحدود مع آذربيجان «فاتحو خيبر» نظرتها إلى العامل الإسرائيلي في محاولة الرئيس الآذربيجاني، إلهام علييف، إحداث تغيير جيوسياسي على حدودها الشمالية، وإلى درجة خطورة هذه المحاولة، خصوصاً لجهة سياقها وتوقيتها، إضافة إلى التهديد الذي يمثّله الوجود الإسرائيلي المتنامي في آذربيجان على الأمن القومي الإيراني. كذلك، يؤشّر هذا الاسم إلى المدى الذي يمكن أن تبلغه إيران في ردودها العملياتية على المخطّط الآذربيجاني - التركي للمسّ بأمنها القومي، وأنها - وفق بعض السيناريوات المتطرّفة - قد تتدحرج إلى حدّ «فتح حصن الكيان الصهيوني» في آذربيجان والذي تحوّل إلى قاعدة متقدّمة في مواجهة الجمهورية الإسلامية عبر بوّابتها الشمالية. اللافت أنه لم يتمّ، حتى الآن، تحديد موعد لانتهاء مناورة القوات المسلّحة الإيرانية، في رسالة إضافية بأن الباب مفتوح على كلّ الاحتمالات إن لم يتمّ التراجع عن التفكير في إحداث التغيير الجيوسياسي المذكور، والذي يستهدف السيطرة على قناة التواصل الإيرانية مع أوروبا من خلال أرمينيا، بما يحمل أبعاداً أمنية واقتصادية واستراتيجية.من الواضح أن آذربيجان ومن يقفون وراءها فوجئوا بطبيعة الردّ الإيراني، عبر الانتقال فوراً إلى المناورات العسكرية، في رسالة حاسمة بأن أيّ خطوة عملية في الاتجاه الذي يخطّطون له ستقابَل بما لا يتوقّعونه. ولا تتعارض مبادرة إيران إلى تلك المناورات مع استعدادها لتحكيم المنطق الدبلوماسي في هذه القضية، بل هي من مقتضياته اللازمة لتحقيق النتائج السياسية المرغوبة. وهو ما أكده المرشد الإيراني علي خامنئي بقوله: «بالطبع، إن بلدنا وقواتنا المسلحة يتصرّفان بعقلانية واقتدار»، في إشارة إلى الأداء السياسي والعملياتي على السواء. والظاهر أن الرهان الذي استُند إليه في باكو وأنقرة، ومِن خَلفهما واشنطن وتل أبيب، هو أن أيّ حلّ دبلوماسي تقليدي تَقبل به طهران، سيؤدّي - في الحدّ الأدنى - إلى تغيير ما في الواقع القائم، الأمر الذي سيكون بالضرورة على حساب الجمهورية الإسلامية. ومن هنا، كان لا بدّ من تبديد أيّ رهانات من النوع المُشار إليه، من خلال تظهير إيران أعلى درجات استعدادها لتفعيل عناصر الاقتدار لديها، على أمل أن يكفي ذلك لإحباط المسار الآذربيجاني - التركي. أمّا إن لم يتراجع الطرفان عن مخطّطهما، فستعمل هي على قلب التهديد إلى فرصة، عبر فرْض وقائع تعزّز موقعها على حدودها الشمالية، وبما يحفظ مصالحها، الأمر الذي أنبأت به بوضوح دعوة خامنئي الآخرين إلى أن «يتصرّفوا بعقلانية، فالذين يحفرون بئراً لإخوتهم هم أوّل من يسقط فيه». على أن موقف إيران الحاسم هذا، يتجاوز في أبعاده ورسائله جبهتها الشمالية، إذ سيطال في تداعياته كلّ محيطها المباشر. فما أقدم عليه النظام الآذربيجاني يمثّل محطّة اختبار ومؤشّراً كاشفاً لإرادة الجمهورية الإسلامية وقدرتها على مواجهة التحدّيات، في ظلّ العقوبات والضغوط والتهويل باستهدافها أمنياً وعسكرياً، وخصوصاً إزاء دول الخليج التي تستحضر إسرائيل إلى الباحة الجنوبية لإيران، وهو ما لا يمكن فصله عن كلّ ما يدور حولها في الشمال والغرب (العراق)، خاصة أن هناك أطرافاً مشتركة رئيسة بين الساحات المذكورة، على رأسها واشنطن وتل أبيب.
ستكون نتائج هذه الجولة حاضرة لدى جهات القرار الإقليمي والدولي


ليس خافياً أن النظام الآذربيجاني يلعب دوراً إقليمياً وظيفياً، بدعم تامّ من تركيا وإسرائيل، وهذا ما برز جلياً في مواجهة أرمينيا - والتي لها أيضاً سياقاتها الثنائية الآذربيجانية - الأرمينية -، ولكن بشكل أكبر وأخطر في مواجهة إيران. وتكشف السياسة الآذربيجانية الإقليمية، إضافة إلى ساحات أخرى، حجم التقاطع في الأولويات بين الطرفين التركي والإسرائيلي في أكثر من ساحة إقليمية. ومع ذلك، يبقى للعلاقة بين باكو وتل أبيب طابع خاص واستثنائي، حيث تحتلّ الأولى موقعاً متقدّماً في استراتيجية تطويق إيران، والتي تشمل أيضاً تعزيز التعاون الأمني مع دول التطبيع في الخليج، وبشكل مموّه مع النظام السعودي وآخرين، إضافة إلى الدور الإسرائيلي في «كردستان العراق»، وذلك في مقابل نجاح إيران - من خلال دعمها للمقاومة - في التأسيس لطوق ناري صاروخي حول إسرائيل، في لبنان وسوريا وغزة وفي جوار البحر الأحمر في اليمن، وفي العراق كي يكون عمقاً استراتيجياً لمحور المقاومة. ولعلّ من أبرز المؤشّرات إلى حجم الوجود الإسرائيلي في آذربيجان، كثافة التعاون الأمني والعسكري والاقتصادي بين الجانبين، والذي يتمّ التعبير عنه في مختلف وسائل الإعلام ومراكز الأبحاث الإسرائيلية، وعلى ألسنة المسؤولين والقادة الإسرائيليين. ويحضر، في هذا السياق، الدعم الإسرائيلي لباكو في مجالات متنوّعة، من ضمنها الطائرات المسيّرة ومنظومات الدفاع الجوي. في المقابل، تُمثّل آذربيجان المزوّد الرئيس بالنفط لإسرائيل من خلال أنبوب يمرّ عبر جورجيا وتركيا، إضافة إلى كونها الزبون الثاني في شراء الأسلحة من إسرائيل بعد الهند.
على مستوى السياق الإقليمي والتوقيت، تأتي محاولة العبث بالوضع الجيوسياسي على الحدود الشمالية لإيران، بعد بروز متغيّرات عدّة أجهضت الرهانات الأميركية والإسرائيلية على إخضاع إيران في ما يتعلّق ببرنامجها النووي والعسكري وسياساتها الإقليمية، وفي ظلّ استبعاد اللجوء إلى خيارات عسكرية دراماتيكية من قِبَل الولايات المتحدة وإسرائيل، كلّ لأسبابه، وأيضاً في سياق البحث عن خيارات بديلة تستهدف استنزاف طهران وتصعيد الضغوط عليها. فالتناغم والتكامل بين الدور التركي - الآذربيجاني وبين الاستراتيجية الأميركية - الإسرائيلية، يشكّل من وجهة نظر صنّاع القرار في باكو وأنقرة غطاء ودعماً لخيارهم هذا، وهو ما يمنحهم فرص نجاح أكبر. وفي مقابل تلك الرهانات والتقديرات، أتت الرسالة الحاسمة من المرشد الإيراني، والتي حذر فيها «أولئك الذين يظنون أنهم قادرون على توفير أمنهم بوَهم الاعتماد على الآخرين»، بالقول: «فَلْيعلموا أنهم سيتلقّون صفعةَ قريباً». على أنه من الواضح أن خيار الضغط عبر الحدود هو الأقلّ كلفة بالنسبة إلى إسرائيل والولايات المتحدة، فضلاً عن كونه السيناريو المُتاح في هذه المرحلة بمواجهة إيران، عبر تحريك جبهات متعدّدة ضدّها، ومحاولة العبث بوضعها الداخلي، إضافة إلى سياسة الاستهداف الأمني. لكن السؤال يبقى هو ما إن كانت تلك الخيارات ترتقي إلى مستوى مواجهة التهديد الإيراني على الأمن القومي الإسرائيلي وعلى المصالح الأميركية؟
عكست ردّة الفعل الإيرانية على مؤشّرات بدء تنفيذ المخطّط الآذربيجاني - التركي، عمق إدراك القيادة في طهران للرسائل الكامنة في محاولة زعزعة الوضع الجيوسياسي على حدودها الشمالية، وعلاقتها بالصراع الذي تخوضه مع واشنطن وتل أبيب. كما عكست إدراكها المخاطر الكامنة في عدم كبح هذا المسار على ساحات أخرى، وما ينطوي عليه من رسائل ضعف ستشجّع الكثير من الأطراف الإقليمية على خيارات أشدّ خطورة. والظاهر أن هذا الموقف الحاسم بدأ يقلب المشهد، ويتحوّل إلى محطّة تأسيسية تُعزِّز قوّة الردع الإيرانية الإقليمية، خصوصاً أنه يأتي بعد فشل خيارات واشنطن وتل أبيب في مواجهة طهران، وارتداعهما عن خيارات أكثر دراماتيكية، وأيضاً في أعقاب مبادرة إيران إلى البعث برسائل تمهيدية تتّصل بالوجود الإسرائيلي في «كردستان»، وبتحريك المجموعات المسلحة التي تستهدف أمنها انطلاقاً من الأراضي العراقية. لذلك، فإن نتائج هذه الجولة ستكون حاضرة لدى جهات القرار الإقليمي والدولي، إزاء الرهان على أيّ خيارات مستقبلية تستهدف الجمهورية الإسلامية من بوّابة حدودها.