طهران | لا تزال التوتّرات التي شهدتها العلاقات بين إيران وجارتها الشمالية الغربية مستمرّة، بعدما اندلعت على خلفية اعتقال الأخيرة سائقَي شاحنات إيرانيَّيْن، لتشتدّ في ظلّ المناورات المشتركة بين أذربيجان وتركيا وباكستان، ولتبلغ ذروتها مع المناورات التي أجرتها الجمهورية الإسلامية على الحدود مع أذربيجان. لكنّ البحث عن جذور المشكلة يوصل إلى ما هو أعمق من ذلك، وتحديداً إلى النفوذ الإسرائيلي في أذربيجان، والتغييرات الجيوسياسية التي طرأت، خلال العام الماضي، في منطقة القوقاز، الأمر الذي تسبّب في خلقِ هواجسَ إضافية لدى طهران. وتُظهر التصريحات التي أدلى بها المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية، آية الله علي خامنئي، قبل يومين، حساسية الوضع.
اعتبر خامنئي أن توفير الأمن عبر التعويل على قوّة دولة أجنبية، هو «وهم ليس إلّا» (أ ف ب )

إذ اعتبر، في كلمة ألقاها في مراسم تخريج دفعة من طلبة الجامعات العسكرية للقوات المسلّحة الإيرانية، أن توفير الأمن عبر التعويل على قوّة دولة أجنبية، هو «وهم ليس إلّا»، مضيفاً أن «المصابين بهذا الوهم سيتلقّون صفعة قريباً»، في إشارة إلى أذربيجان، التي لم يأتِ على ذكرها، أو رئيسها إلهام علييف، بشكل مباشر. وفي السياق نفسه، أشار خامنئي إلى «الأحداث التي تقع شمال غرب إيران، وفي بعض الدول الجارة»، مشدّداً على أن «جيوش المنطقة يجب أن لا تسمح للجيوش الأجنبية بالتدخّل، أو أن تتواجد عسكرياً، من أجل حماية مصالحها»، متابعاً أن ما يجري «تجب تسويته بمنطق تجنّب الترخيص للوجود الأجنبي». وردّاً على ذلك، قالت وزارة الخارجية الأذربيجانية، في بيان أمس، إن «التصريحات الإيرانية عن وجود قوات لطرف ثالث بالقرب من الحدود الأذربيجانية - الإيرانية، لا أساس لها من الصحة»، بعدما كان وزير الخارجية الإيراني، حسين أمير عبد اللهيان، قد أشار إلى أن بلاده لا تريد أن تتحوّل جارتها إلى «ساحة يسرح ويمرح فيها الإسرائيليون». وفي ظلّ كلّ هذه التطوّرات المتسارعة، أعلنت تركيا تخطيطها لإجراء تدريبات عسكرية مشتركة مع أذربيجان، هذا الأسبوع، في منطقة على الحدود مع إيران، بعدما انتقدت الحكومة في باكو، طهران، لبدئها مناورات عسكرية بالقرب من حدودها.

تل أبيب بؤرة التوتّر بين البلدَين
إسرائيل، التي تَبعد زهاء 1400 كيلومتر عن الحدود الإيرانية - الأذربيجانية، تلقي بظلالها الثقيلة على العلاقات بين طهران وباكو، حيث تكمن المشكلة الرئيسة بالنسبة إلى إيران في الصداقة الاستراتيجية بين الأخيرة وتل أبيب، والتي تتعمّق، يوماً بعد يوم. وكانت إسرائيل من أوائل الذين اعترفوا باستقلال جمهورية أذربيجان رسمياً، لتنضمّ هذه الأخيرة، بعد أشهر فقط، إلى مجموعة الدول التي تعترف بالكيان العبري رسمياً. وفضلاً عن ذلك، ينظر الطرفان، أحدهما إلى الآخر، نظرة استراتيجية، الأمر الذي أسهم في ترسيخ العلاقات بينهما. وكان رئيس الوزراء الإسرائيلي، شيمون بيريز، زار باكو في عام 2009، لتضحي هذه العلاقات شبه علنية. وفي ذلك الحين، وصف إلهام علييف ما يجري بين الجانبَين بـ«جبل جليد عُشره على الأرض وبقيّته تحت الأرض». وفي عام 2012، أعلن وزير الخارجية الإسرائيلي، أفيغدور ليبرلمان، أن «أذربيجان أهمّ بالنسبة إلى إسرائيل من فرنسا»، في إشارة إلى جانب من هذه العلاقات والتعاون الخفيّ القائم بينهما.
تكمن المشكلة الرئيسة بالنسبة إلى إيران في الصداقة الاستراتيجية بين باكو وتل أبيب


وفي أعقاب زيارة بيريز، دخلت العلاقات السياسية والدبلوماسية بين الجانبين حقبة لا عودة عنها، حيث أبصرت النور صفقات أسلحة بقيمة عدّة مليارات دولار. وتفيد تقديرات «سيبري» (معهد استوكهولم الدولي لبحوث السلام) بأن إسرائيل كانت، في الفترة من عام 2010 إلى عام 2020، ثاني مزوّد لجمهورية أذربيجان بالأسلحة، بعد روسيا. ووفقاً لهذه الأرقام، فإن 69 في المئة من مجمل الأسلحة التي ابتاعتها أذربيجان، خلال الفترة من عام 2016 إلى عام 2020، كانت إسرائيلية الصنع. وبالتوازي مع ما تقدّم، برز منعطف في هذه العلاقة، على مدى العقدين الأخيرين، من خلال افتتاح خطّ أنابيب باكو - تفليس - جيهان (خطّ أنابيب BTC الذي افتُتح عام 2006)، والذي أوصل نفط أذربيجان إلى البحر الأبيض المتوسط، وأدّى إلى زيادة صادرات النفط الأذربيجاني إلى إسرائيل، بشكل لافت، حتّى باتت أذربيجان تزوّد إسرائيل بـ40 في المئة من احتياجاتها النفطية، لتحتلّ بذلك مكانة خاصّة في حسابات الأخيرة الاقتصادية.
من ناحية أخرى، تُمثّل أذربيجان، بالنسبة إلى إسرائيل، الدولة المسلمة التي لا تتوجّس من إقامة علاقات معها، على النقيض من الكثير من الدول الإسلامية الأخرى. أمّا بالنسبة إلى باكو، فإن الكيان العبري يمثّل إحدى القنوات الملائمة التي تركن إليها لاعتماد سياسة دفاعية أمنية، بمنأى عن هيمنة روسيا، وفي سبيل مواجهة أرمينيا. إيران، بوصفها عدو إسرائيل، لم تكن سعيدة أبداً بهذه العلاقة. وبالنسبة إليها، فإن اقتراب إسرائيل من حدودها يمثّل كابوساً، في وقت لم تتمكّن فيه، من خلال أدواتها، من الحدّ من تعمّق الصداقة الاستراتيجية بين باكو وتل أبيب.

التغييرات الجيوسياسية بعد حرب قره باغ
بالتوازي مع كلّ ذلك، أدخلت الحرب التي دارت، العام الماضي، بين أذربيجان وأرمينيا، تغييرات جادّة على الوضع الأمني في المنطقة، في وقت أثار فيه تزايد قوّة باكو قلق طهران، أكثر فأكثر. فبعد هذه الحرب، باتت العلاقات بين أذربيجان وإسرائيل أعمق من ذي قبل، حتى إن البعض تَوقّع افتتاحاً قريباً للسفارة الأذربيجانية في الكيان العبري. كذلك، دار حديث في الكواليس عن محادثات سرّية بين باكو وتل أبيب، في عام 2021، مع تقارير غير مؤكّدة عن إبرام صفقة بقيمة مليارَي دولار لشراء أسلحة من إسرائيل، فضلاً عن تقارير أخرى غير مؤكّدة، أيضاً، عن احتمال تخطيط الإسرائيليين لمهاجمة المنشآت النووية الإيرانية عسكرياً، عبر الأراضي الأذربيجانية. وتثير هذه المواضيع حساسية خاصّة لدى الجمهورية الإسلامية، التي باتت تواجه معضلة أخرى تتمثّل في عدم حاجة أذربيجان إليها للوصول إلى جمهورية نخجوان ذات الحكم الذاتي. فقد تعهّدت يريفان، في اتفاق وقف إطلاق النار بينها وبين باكو، بأن تُبقي على ممرّ نخجوان مفتوحاً، ليصل الأذربيجانيون عَبره بحُرّية إلى نخجوان.
وفيما شكّل الانتصار في الحرب مع أرمينيا نجاحاً سياسياً باهراً بالنسبة إلى إلهام علييف، فقد ترك هذا التحوّل بصماته بوضوح على أداء الرجل، في حين جاء دخول تركيا على الخطّ، ليُقحم أذربيجان في رقصة «تانغو» ثلاثية. وعلى رغم أن رأسَي هذه الرقصة - أي إسرائيل وتركيا - غير متناغمَين في المنافسات الإقليمية، إلّا أن ذلك لا يمنع حقيقة أن أنقرة تمثّل بالنسبة إلى باكو ميزة مضاعفة، كما تزيد من ثقل هذه الأخيرة في الصراعات الجيوسياسية في المنطقة. وفي هذا الإطار، تُظهر التحرّكات الأخيرة لإيران، بما في ذلك مناورات الحرس الثوري والجيش عند الحدود مع أذربيجان، توصُّل السلطات الإيرانية إلى تلك النتيجة، وهو ما يفرض عليها رسم الخطوط الحمر بشكل أكثر وضوحاً. يبقى أنّ التوتّرات في العلاقة بين إيران وأذربيجان لن تفضي، على الأمد القصير، إلى تطوّرات دراماتيكية وعنيفة. إلّا أن الأمد البعيد قد يحمل آفاقاً أخرى، خصوصاً إذا لم تَعمد باكو إلى مراجعة قراراتها، في ظلّ تصاعد منسوب الاحتكاك بين طهران وتل أبيب.