يتكشّف، يوماً تلوَ آخر، حجم المأزق الغربي في أفغانستان، وحاجة هؤلاء، ولا سيما الطرف الأميركي، إلى اختلاق أيّ عذر يتناسب مع تسريع عملية الإجلاء الضخمة المتواصلة، للأسبوع الثاني، في مطار كابول. لهذا، كان الرئيس الأميركي جو بايدن الذي يواجه انتقادات متزايدة من جانب خصومه كما مناصريه ووسائل الإعلام التي شكّلت رافعةً لفوزه في الانتخابات الرئاسية، حاسماً إزاء الالتزام بموعد الانسحاب، نهاية الشهر الجاري، ولا سيما أن تلميحاته إلى احتمال تمديد المهلة، قوبلت برفضٍ قاطع من جانب حركة «طالبان». ولعلّ اللقاء الذي جمع رئيس المكتب السياسي في الحركة الملّا عبد الغني برادر، إلى مدير وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية وليام بيرنز في كابول ساهم بدوره في ترجيح كفّة استكمال الانسحاب سريعاً، وهو ما يعزّزه ربط الرئيس الأميركي التقيُّد بموعد الـ31 من آب، باستمرار التنسيق مع الحركة. وفي حين أكد بايدن، مراراً، أن غزو أفغانستان حقَّق هدفه الأهمّ المتمثّل بتحييد تنظيم «القاعدة»، فهو برّر قراره إنجاز الانسحاب بحلول الأسبوع المقبل، بـ«تزايد» خطر شنّ الفرع الأفغاني لتنظيم «داعش» هجمات ضدّ القوات الأميركية في كابول، مبيّناً، في هذا الإطار، أن الجسر الجوّي الذي تقوده بلاده لإجلاء مواطنيها ورعايا الدول الغربية والمواطنين الأفغان الذين تعاونوا مع قوات الاحتلال، يجب أن ينتهي قريباً، لأنه كلّما طالت مدّة بقاء الولايات المتحدة في أفغانستان كان هناك «خطر حادّ ومتزايد بوقوع هجوم من قِبَل جماعة إرهابية تُعرف باسم الدولة الإسلامية - خراسان». كما طلب الرئيس الأميركي من وزارتَي الدفاع، «البنتاغون»، والخارجية، وضعَ خطط طوارئ لتعديل الجدول الزمني، إذا اقتضت الضرورة.
بدا مستغرباً إعلان روسيا للمرّة الأولى أمس، إقامة جسر جوي لإجلاء نحو 500 من رعاياها

وإن كان «مفهوماً» استعجال الغربيين إلى الرحيل، بدا مستغرباً إعلان روسيا للمرّة الأولى أمس، إقامة جسر جوي لإجلاء نحو 500 من رعاياها، إلى جانب رعايا الدول الأعضاء في «منظمة معاهدة الأمن المشترك» (بيلاروسيا وقرغيزستان وطاجيكستان وأوزبكستان)، من أفغانستان، ولا سيما أن موسكو اتّخذت، منذ سيطرة «طالبان» على كابول، موقفاً توافقيّاً إزاء الحركة، على اعتبار أنها ترسل «إشارات إيجابية» من حيث الحريات وتقاسم السلطة، كما أنها، وبخلاف غالبية الدول، حافظت على مكاتبها التمثيلية في هذا البلد مفتوحة. وتجلّي الخطوة الروسية القلق الذي تشعر به هذه الأخيرة على أمن جمهوريات الاتحاد السوفياتي السابقة في آسيا الوسطى، منطقة نفوذها الواقعة على سفحها الجنوبي، إذ تخشى خصوصاً من تدفّق اللاجئين الذي قد يزعزع استقرار المنطقة، في حال انتشار التشدُّد الإسلامي. لذا، تستمر في تدريباتها العسكرية في طاجيكستان، حيث عزّزت قاعدتها العسكرية، ونشرت عدداً من دبابات «تي-72» على سفوح الجبال، وتدرّبت على إطلاق النار على أهداف متحرّكة من مدى بعيد، وفق وزارة الدفاع الروسية.
وفي حين تستمرّ الفوضى الدولية والازدحام المتزايد في مطار كابول، تواصل حركة «طالبان» مساعيها إلى طمأنة الداخل والخارج المدعوَّيْن إلى منحها فرصة حتّى تُثبت أن نسختها الجديدة لا تشبه ما كانت عليه إبّان الغزو الأميركي لأفغانستان. وفي هذا السياق، قال الناطق باسم المكتب السياسي للحركة محمد نعيم، إن جماعته «تريد وتطلب من جميع الدول، وبالأخصّ تركيا، أن تساعد أفغانستان وشعبها»، مضيفاً أن «طالبان» تعرّضت، طوال 20 عاماً، لاستهداف إعلامي، ولم تحصل على فرصة للتعبير عن نفسها، إلّا خلال السنوات الثلاث الأخيرة. ولا شكّ في أن قادة الحركة يدركون جيّداً أن سيطرتهم العسكرية على أفغانستان، لا تعني بالضرورة القضاء على احتمالات نشوب الحرب مرّة أخرى، والتي ستتضاعف في ظلّ غياب مصالحة وطنية، وظهور جيب معارض في ولاية بانشير شمال شرق البلاد. وثمّة تحديات جمّة تواجهها الحركة، لعلّ الحفاظ على هامشٍ من الحريات يُعدّ أبرزها، في ما لو أرادت نيْل اعتراف دولي بحكمها الذي تقول إنها ستُشرك فيه الجميع. ويبدو جليّاً أن الولايات المتحدة وبقيّة الدول الفاعلة على الساحة الدولية، لن تمنح «طالبان» الشرعية، إلّا بعد تقديمها تنازلات كبيرة، يُحتمل أن تفقدها شريحة واسعة من مؤيديها داخلياً وخارجياً. وهي «شرعية» يحتاج إليها بلدٌ مثل أفغانستان، يعاني وضعاً اقتصادياً مزرياً، وسط غياب شبه تام للبنية التحتية ومعدلات فقر تبلغ نسبتها نحو 70%.