منذ 2014، تَعزّز حضور روسيا بشكل ملحوظ في أفريقيا، حيث دخلت بقوّة في التزاحم على الأسواق والفرص الاقتصادية، والمحتدم في القارّة السمراء. يسعى الروس، حالياً، إلى توسيع دائرة نفوذهم خارج منطقتَي القرن الأفريقي وجنوب القارة، اللتين تمركزوا فيهما أساساً إبّان المرحلة السوفياتية، للتمدّد نحو غرب أفريقيا، ومنافَسة فرنسا في ما كان يوماً «حديقتها الحصرية». وقد زادت التطورات التي شهدتها مالي من المخاوف من احتمال حلول روسيا في مكان فرنسا كشريك أمني للسلطة السياسية. ففي 24 أيار الماضي، وخلال المرحلة الانتقالية التي شهدتها باماكو بعد الإطاحة بالرئيس إبراهيم بوبكر كيتا، وقع انقلاب عسكري جديد، ليسارع الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، إلى اعتبار هذا «الانقلاب في الانقلاب» ، الذي قاده الكولونيل آسيم غواتا، «غير مقبول»، آمراً بتعليق العمليات العسكرية المشتركة مع مالي. وعلى الرغم من عدم تورّط الروس في ما جرى، إلا أن المراقبين يلحظون المساهمة الصامتة للعديد من السياسيين والعسكريين الماليين في الدفع نحو انعطافة استراتيجية باتجاه موسكو. لقد نسجت روسيا صلات قوية مع مجموعة العسكريين التي استولت على السلطة. ومهندس هذه العملية كان قد درس في الكلية العسكرية في موسكو، شأنه شأن جيل كامل من الضبّاط الماليين.الحضور الروسي المتنامي في القارة، وفقاً لأرنو كاليكا، الباحث في «المعهد الفرنسي للعلاقات الدولية»، يرتبط بثلاثة عوامل: «العقوبات الغربية التي فُرضت على روسيا بعد ضمّها القرم، وتشكيل الاتحاد الاقتصادي الأوراسي، وبداية الضربات الجوّية الروسية في سوريا (30 أيلول 2015)». ويرى كاليكا أن المواجهة مع الغرب باتت أحد محدّدات السياسة الخارجية الروسية، وهو ما تُفسّره اعتبارات سياسية داخلية وأخرى خارجية، متّصلة بالسعي لتعظيم الدور والتأثير الدوليَين، والذي يشجّع الكرملين على البحث المحموم عن شراكات. وتتمّ الاستثمارات الروسية في أفريقيا، أساساً، عبر التعاون التقني - العسكري وتقديم الخدمات في ميدان الأمن. وقد وقّعت موسكو بين 2014 و2019، 19 اتفاقاً مع بلدان أفريقية للتعاون في هذا الميدان. ويعتبر سيرغي سوخنكين، الباحث في «المعهد الفرنسي للعلاقات الدولية»، في تقرير أعدّه في أيلول 2020، أن الاتفاقيات المُوقّعة مع «أنغولا وغينيا وغينيا بيساو ومالي وموريتانيا مقلقة جداً بالنسبة إلى الغرب، لأنها تهدف إلى استغلال المساعدات العسكرية للحصول على تنازلات في مجال المناجم وشراكات في قطاع الطاقة».
لروسيا عدد من أوراق القوة التي تتيح لها الحلول في مكان فرنسا


ويمثّل الدور المتعاظم لأبرز شركة روسية، «فاغنر»، في القارّة، ترجمة لهذه الدبلوماسية الأمنية المستجدّة، على رغم أن تدخّلات الشركة لم تُكلَّل دائماً بالنجاح. ففي موزامبيق مثلاً، شاركت «فاغنر» إلى جانب جيش البلاد في مكافحة الإرهاب لمدّة شهرين، ومُنيت بهزيمة دامية اضطرّتها للمغادرة. ويؤكد سوخنكين أنه إضافة إلى القدرات والخبرات المحدودة للشركة في ميدان مكافحة الإرهاب، فإن فشلها ناجم عن عجز الخبراء العسكريين الروس عن «إيجاد لغة مشتركة مع القوات المسلّحة الموزمبيقية، مما حدّ بقوة من إمكانية التعاون معها. كرّرت موسكو بمعنى ما الأخطاء التي ارتكبتها خلال الحرب الباردة، عندما كانت التباينات الثقافية تشكّل أهمّ العقبات بين الخبراء العسكريين الروس وأولئك المحلّيين». لكن «فاغنر» حقّقت انتصارات فعلية في أفريقيا الوسطى، حيث استطاع مرتزقتها استعادة المدن من المجموعات المسلّحة المعارضة، مع العلم أن الأرياف ما زالت خارجة عن سيطرة الدولة، ومن غير المؤكد ألّا نشهد انتكاسات في السنوات المقبلة بسبب قدرات الشركة المحدودة. لكن في مالي، يبدو أن روسيا قد استفادت من المصاعب التي تواجهها فرنسا، التي يُنظر إلى تدخّلها العسكري على أنه احتلال من قِبَل السكّان المحلّيين، لتفعيل شبكات نفوذها. ومن غير المستحيل، في حال انسحاب فرنسا من هذا البلد، أن يتمّ استدعاء روسيا للمساعدة على حفظ الأمن، وهو ما يثير نقاشاً بين العسكريين الفرنسيين، الذي يَعتقد بعضهم أن الانسحاب سيكون بمثابة انتصار رمزي للجهاديين، وتثبيت للنفوذ الروسي، الأمر الذي يهدّد بزعزعة استقرار ذلك الفرنسي في أفريقيا.
وعلى عكس الفرنسيين، فإن الروس، بحسب عدد كبير من المحلّلين، أكثر استعداداً لعقد الصفقات مع المجموعات المسلّحة الناشطة في شمال مالي، خاصة مع إياد أغ غالي، قائد «مجموعة نصرة الإسلام والمسلمين»، المرتبطة بتنظيم «القاعدة» والعدو رقم 1 لباريس. لروسيا عدد من أوراق القوة التي تتيح لها الحلول في مكان فرنسا، وعلى رأسها قدراتها العسكرية وعدم رغبتها في التدخّل في الشؤون الداخلية للأنظمة الأفريقية، لكنها تواجه أيضاً عقبات ومصاعب موضوعية، لاسيما أنها لا تتمتّع بقدرات مالية كبيرة، ممّا يعني أنها لن تنجح في تأمين دعم مالي للبلاد، في حال مغادرة فرنسا لها. أمّا هذه الأخيرة، التي تمتلك قدراً من التأثير في مؤسّسات الحوكمة العالمية، كـ»صندوق النقد الدولي» أو حتى الاتحاد الأوروبي، التي تُقدّم مساعدات مالية حيوية لمالي، فستَحرم نظام الأخيرة من الموارد الضرورية لعمل مؤسّساته وإداراته. يبقى أن الفرضية الأكثر إثارة للهول بالنسبة إلى المتمسّكين بالنفوذ الفرنسي التاريخي في هذه الناحية من القارّة، هو قيام الصين، في إطار شراكة استراتيجية مع روسيا، بتغطية أكلاف التدخّلات العسكرية فيها.