يبدو القوميّون كأنهم يكسبون تدريجياً في مرحلة ما بعد عام 1998
لكن تعامل مختلف الجهات مع تجدّد أحداث العنف، بوصفها حدثاً من خارج سياق الوضع الطبيعي وعودة إلى ماضٍ أسود لمجتمع يحكمه اتفاق نهائي لإنهاء العنف الطائفي، يتناقض مع واقع التناقضات العميقة التي لا تزال تحكم حياة الأقاليم الإيرلندية المحتلّة. والحقيقة أن عملية السلام وما تمخّض عنها من اتفاق في عام 1998، كانا مصمّمَين بشكل أساسي لإدارة الصراع واحتوائه في المقام الأول، وإيجاد صيغة لتجميد الأوضاع القائمة بغرض تمديد هيمنة لندن على الإقليم. وعلاوة على ذلك، وخلال الأزمات المتكرّرة التي اتّسمت بها السنوات الـ 23 الماضية، لم ينجح الاتفاق إلّا في بناء مؤسّسات سياسية منقسمة وخلق ديناميات تكرّس التباين الطائفي المفتعل. وفي ضوء ذلك، لا يبدو تجدّد أحداث العنف أمراً مفاجئاً، وإن كانت قد اتّسمت هذه المرّة ببعض تفاصيل مثيرة للاهتمام، إذ اقتصرت إلى حدّ كبير على المناطق الموالية، مثل طريق شانكيل في بلفاست وخليج تايغرز، إلى جانب مناطق مماثلة في نيوتاونابي وكاريكفيرجس المجاورتين، إضافة إلى مشاغبات متفرّقة في المناطق الموالية في ديري، وبعض المدن الصغيرة الأخرى. وفي حين أن العنف الموالي كان موجّهاً إلى حدّ كبير إلى قوات الشرطة، فإن أخطر المشاغبات شملت شبّاناً من شانكيل الموالية يواجهون شبّاباً من منطقة طريق سبرينغفيلد القومية، في غرب بلفاست على طول واجهة طريق لانارك. وجاء هذا في وقت منعت فيه الشرطة مواجهة مماثلة بين الجانبين في شمال بلفاست، بين حي نيو لودج (القومي) وخليج تايغر (الموالي). واستخدمت الشرطة خراطيم المياه عدّة مرّات، أثناء المواجهات مع الشباب القوميين الذين تجمّعوا على طريق سبرينغفيلد استعداداً لمواجهة غارات محتملة للموالين على مناطقهم. وفي المشهد الكلّي، فإن أعمال الشغب اقتصرت على مناطق جغرافية محدودة جداً، لها خبرة طويلة في مثل هذا العنف، وكانت الأعداد المتورّطة فيها صغيرة نسبياً (بالمئات، وليست بالآلاف).
الحرمان الاجتماعي، والبطالة، وشعور الأجيال الجديدة بالاستبعاد والاغتراب، وانغلاق آفاق المستقبل، كلّها عوامل توفّر الموارد البشرية الخام اللازمة للاضطرابات. لكن التكوينات السياسية والمجتمعية في إيرلندا الشمالية هي التي تحدّد كيفية تعبير هؤلاء الشبّان الساخطين عن غضبهم. وعلى المستوى السياسي، يحاول المسؤولون الموالون للتاج حشد أتباعهم، من خلال سياسة التظلّم وإعلان الاستياء الموجّه إلى حدّ كبير ضدّ مواطنيهم القوميين، بدلاً من انتقاد النظام. وفي الواقع، فإن التحوّلات الديموغرافية لمصلحة الكاثوليك، والتردّي المستمر للتكوينات السياسية والاجتماعية والاقتصادية للموالين، منذ سبعينيات القرن العشرين، والقبول القسري بتقاسم السلطة مع القوميين في البرلمان المحلّي للإقليم، كلّها عوامل زعزعت استقرار الكتلة البروتستانتية وقوّضت الثقة بالنفس لدى القيادة السياسية وأتباعها على حدّ سواء. وعلى النقيض من ذلك، يبدو القوميّون كأنهم يكسبون تدريجياً، في مرحلة ما بعد عام 1998، حيث يلعب التاريخ والديموغرافيا والعلاقة بالاتحاد الأوروبي لمصلحة قضيّتهم: إعادة توحيد إيرلندا. وفوق ما تقدّم كلّه، خَلق «بروتوكول إيرلندا الشمالية» شعوراً مريراً لدى الموالين بالخيانة، وتذكيراً صارخاً لهم بحقيقة علاقة الاحتلال التي تربط بين لندن والإقليم. ولا يبدو بوريس جونسون بتصريحاته الأخيرة بشأن كسر بعض مواد البروتوكول، بصفتها مخالفة للقانون الدولي ولاتفاق «بريكست»، لمصلحة تمتين علاقة الإقليم ببريطانيا، قادراً على استعادة ثقة الموالين في بلفاست قريباً، فيما سيُدخله ذلك حتماً في دوامة احتكاك جديد بالأوروبيين.
هذا هو السياق السياسي الأوسع لاندلاع أعمال الشغب في المناطق الموالية، حيث ثمّة مجموعات متنوّعة من المراهقين المهمّشين الساخطين وبقايا قوّات شبه عسكرية، لن يكون بمقدورها، من دون تدخّل بريطاني حاسم لمصلحتها ــــ لا ترغب به لندن في المرحلة الحالية على الأقلّ ــــ، وقف مسيرة توحيد الجزيرة الإيرلندية، ولا منع تصحيح جرائم الاستعمار.
اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا