لم ينبع الحذر الإسرائيلي من الأداء المستقبلي لإدارة جو بايدن إزاء التحدّي الذي تمثّله الجمهورية الإسلامية في إيران من فراغ. فعلى رغم مواقف وزير الخارجية الأميركي العتيد، أنتوني بلينكن، في جلسة في الكونغرس للتصديق على تعيينه، وقوله إن الإدارة الجديدة ستتشاور مع إسرائيل ودول الخليج قبل أن تعود إلى الاتفاق النووي، وإن إيران «بصفتها دولة على عتبة النووي ستكون أخطر مما هي عليه الآن» ومن الواجب الملحّ منع ذلك... فإن إذاعة جيش العدو، «غالي تساهال»، أكدت أن هذه المواقف لم تهدّئ إسرائيل. يبدو أن ذلك يعود إلى المخاوف لدى القيادتين السياسية والأمنية اللتين تنظران إلى مستقبل التطورات لا المواقف الآنية التي يحكمها أكثر من اعتبار. فالمواقف الأميركية تنبع من الوقائع الجارية، ومن الواضح أن طهران تتحرّك في مسار تصاعدي، ما سيفرض المزيد من الوقائع التي ستؤدي إلى تضييق خيارات بايدن، وتحول دون تجاهل هذا الملف لوقت طويل، كما أن المشهد أمام مروحة من السيناريوات التي سيتساقط بعضها، وتتعزز الأخرى.
العبرة الأكثر حضوراً في تل أبيب أن طهران التي لم تخضع لترامب لن تتراجع الآن

بعدما حدَّد قائد الجمهورية الإسلامية، الإمام علي خامنئي، ثوابتها في القضايا الصاروخية والإقليمية، إضافة إلى الموقف من رفع العقوبات للعودة إلى الاتفاق النووي بصيغته عام 2015، تبلور واقع جديد فرض نفسه على الطرفين الإسرائيلي ــــ الإقليمي، والأميركي. في المقابل، أتت المواقف الأميركية لتكشف عن هوة واسعة بين الطرفين. يعني ذلك في المدى المنظور، استبعاد جمود الواقع القائم مع استمرار إيران في خطواتها التصاعدية، إضافة إلى استبعاد سيناريو العودة المباشرة إلى الاتفاق. في المقابل، من الواضح أن ذلك سيؤدي إلى التدحرج نحو المزيد من الخطوات المضادة، ما سينعكس على المنطقة بأكملها. وهو عنوان مفتوح على أكثر من سيناريو فرعي أيضاً. لكن العبرة الأكثر حضوراً على طاولة التقدير والقرار في تل أبيب، أن طهران التي لم تخضع لعقوبات دونالد ترامب وسياسة التهويل التي اتّبعتها، وعلى رغم الخيارات العدوانية كاغتيال قائد «قوة القدس» الشهيد قاسم سليماني، وأيضاً بعد ثوابت خامنئي النووية والصاروخية والإقليمية، من الطبيعي ألّا تتراجع عنها، وإن أظهرت قدراً من المرونة، لكنّها تبقى تحت هذا السقف.
انطلاقاً من هذه الوقائع والتقديرات، يأتي ما نقله موقع «واي نت» التابع لصحيفة «يديعوت أحرونوت»، وفيه أن رئيس الحكومة، بنيامين نتنياهو، يقدّر أنه لا يمكن الوصول إلى اتفاق نووي محسّن مع إيران، وهو ينوي تعيين منسّق خاص، إضافة إلى «مجلس الأمن القومي»، للعمل مع إدارة بايدن ومنعها من العودة إلى الاتفاق الحالي. كما طلب نتنياهو حصر الصلاحيات في بلورة السياسات الإسرائيلية تجاه البرنامج النووي الإيراني بيديه، وهو ما رفضه وزير الأمن، بيني غانتس، كما نقل موقع «والّا» عن مسؤولين. كذلك، لفتت تقارير إسرائيلية إلى أن نتنياهو بدأ مشاورات مطولة لصياغة استراتيجية للتعامل مع إدارة بايدن. وفي السياق، أعدّت الحكومة الإسرائيلية سلسلة من المطالب للإدارة الجديدة في إطار الاستعداد لخوض «معركة» أمام أي عودة إلى الاتفاق النووي. وفي تقرير «واي نت»، تبنّت القيادتَين السياسية والأمنية، خلال المدة الماضية، مجموعة من المطالب تتمثّل في ألّا يتنازل بايدن عن «السطوة الاقتصادية» على الجمهورية الإسلامية. وينبع هذا المطلب من أنه على رغم الضغوط، لم تخضع إيران، فكيف إذا ما رُفعت أو خُفّضت.

(أ ف ب )

ترى المؤسسة الإسرائيلية أن «العقوبات الاقتصادية القاسية على صادرات النفط ومنع مشاركة إيران في النظام المالي الدولي كانت ولا تزال الوسيلة الرئيسية أو ربما الوحيدة للضغط، التي يمكن أن تقنع الإيرانيين بالدخول في مفاوضات وإبداء الاستعداد للتنازل»، وأنه ينبغي استخدام هذه الورقة بنوع من «الحكمة والإبداع من أجل استخدام هذا النفوذ (الاقتصادي) كسوط يهدد النظام الإيراني حتى تحقيق تقدم في المفاوضات». ويشدد الطرف الإسرائيلي أيضاً على ألا تكتفي الولايات المتحدة بعودة إيران إلى التزاماتها في إطار اتفاق 2015، بل السعي إلى التوصل إلى اتفاق جديد يشمل البرنامج الإيراني للصواريخ البالستية وجميع الصواريخ الأخرى، وخيارات طهران الاستراتيجية في الشرق الأوسط. في ضوء ذلك، حدَّدت الحكومة أهمية مواصلة المشاورات المسبقة والتنسيق المشترك مع الأميركيين حول الشأن الإيراني، على أن من واجب البيت الأبيض «الحفاظ على المعسكر المؤيد للغرب والمناهض لإيران الذي يتبلور في الشرق الأوسط بعد توقيع اتفاقات أبراهام»، كونها أوجدت «بنية تحتية محتملة لتعاون وثيق وواسع النطاق ضد إيران».
الواضح في ضوء المستجدات الإيرانية والأميركية أن المسارَين النووي والإقليمي دخلا مرحلة جديدة تختلف في عدد من جوانبها عما كانت عليه خلال مرحلة باراك أوباما وأيضاً ترامب. وسيجهد الإسرائيلي والسعودي لاستدراج الأميركي نحو خيارات يؤدي فيها ما يدركون أنهم أعجز عنه، وكل ذلك يأتي وسط تحوّل هائل في معادلات القوة تختلف بنسب كبيرة عما كانت عليه خلال اتفاق 2015. الأهم، مع أنه لا يحظى باهتمام كثير من المراقبين، أن تجربة المفاوضات النووية وتجربة الاتفاق السابق تستند إلى استنفاد رهانات وخيارات سوف تساهم في تعزيز الموقف الإيراني وتجعله أكثر تشدداً وتصلّباً وقوة، الأمر الذي يجعل إسرائيل تنظر بعين القلق إلى مستقبل التطورات، وأكثر تشككاً إزاء صلابة وثبات الموقف الأميركي الذي سيكون عليه في «نقطة تحوّل» لموقف ما.