تأمل تركيا أن تنتهي الانتخابات الحالية ــــ كما في عام 2016 ــــ إلى خسارة المرشّح الديموقراطي والتجديد لدونالد ترامب. وهذا لا يعني مفاضلة حاسمة؛ إذ إن أنقرة عانت الأمرَّين تحت قيادة ترامب، كما في ظلّ باراك أوباما، مع فارق أن الأول غلّب الإنجاز الشخصي على رأي الدولة العميقة تجاه تركيا، من دون إحداث تغيير جذري حقيقي. وعلى قاعدة "القليل خير من الحرمان"، ينظر الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، إلى نظيره الأميركي على أنه أهون الشرَّين. ذلك أن بايدن كان نائباً للرئيس السابق عندما وقعت محاولة الانقلاب العسكري الشهيرة التي اتّهم إردوغان أوباما بالوقوف وراءها. ومن خلفها، جاءت العمليات العسكرية التركية في شمال سوريا تحت أكثر من مسمّى لكسر ما سُمِّي بـ"الكوريدور الكردي" الذي كان أوباما يعمل على إنشائه، وفقاً لاتهامات إردوغان. أي أن الافتراق في الموقف من المسألة الكردية في سوريا يُعدُّ أحد العناوين الأكثر تصديعاً للعلاقات بين أنقرة وواشنطن.شكّل شراء أنقرة منظومة "أس-400" الروسية العنوان الثاني لتوتّر العلاقات بين البلدين، بعدما تمّ الاتفاق على إتمام هذه الصفقة في صيف عام 2016، في إطار صفقة أكبر شملت تدريجياً بناء الروس مفاعلاً نووياً في مرسين، ومدّ خط نفط وغاز طبيعي من روسيا عبر البحر الأسود إلى تركيا فأوروبا. وبالتالي ورّث الديموقراطيون دونالد ترامب، لدى انتخابه في خريف ذلك العام، ملفّات ثقيلة لم يكن بالمستطاع أن يتجاهلها ويتهرّب منها.
وقبل فترة، شنّ المرشّح الديموقراطي هجوماً عنيفاً على إردوغان، واصفاً إياه بالمستبدّ، ومتوعّداً بهزمه في صندوقة الاقتراع من خلال دعم المعارضة. ودعا بايدن إلى ممارسة الضغوط على تركيا في المواجهة مع اليونان. وصول هذا المرشّح إلى الرئاسة سيعني فتح واشنطن ملف حقوق الإنسان في وجه إردوغان، إذ تعتمده الإدارات الديموقراطية أكثر من الجمهورية للضغط في العلاقات الدولية. أي أنه في حال وصول بايدن إلى الرئاسة، فإن العلاقات التركية ــــ الأميركية مرشّحة، وفقاً لمسار المواقف حتى الآن، لتسوء أكثر، وخصوصاً أن الانتخابات الرئاسية التركية المقبلة في عام 2023 سوف تجرى في ظلّ الرئيس الأميركي الذي سيُنتَخب اليوم، وهو ما سيعرّض إردوغان لضغوط كثيرة في حال كان بايدن هو الجالس في البيت الأبيض.
في المقابل، لم تكن العلاقات في عهد ترامب مستقرّة أو حتى جيدة، لكن الرئيس الحالي قاربها من منطلقات شخصية أكثر منها متّصلة بالمصالح الأميركية. أراد أن يُظهر للرأي العام الأميركي أن واشنطن نجحت في ألّا تَسقط تركيا بالكامل في الحضن الروسي. ومقابل إطلاق سراح الراهب أندرو برونسون في خريف عام 2018، أبدى ترامب استعداده لرفع العقوبات الاقتصادية عن تركيا، وبعدها بعام واحد حاول أن يظهر أنه شريك في ضبط الجموح التركي في سوريا، عندما سمح، وفقاً لاتفاق مع أنقرة، بعملية "نبع السلام" ودخول القوات التركية إلى بعض المناطق في شمال شرق الفرات. وبعدها بأسابيع قليلة، عرقل ترامب قراراً بالإجماع لمجلسَي الكونغرس بالاعتراف بالإبادة الأرمنية برفضه التوقيع عليه. أعطى ترامب إردوغان ما لم يحصل عليه الأخير من رئيس أميركي سابق، مقابل موافقة تركيا على استقرار القوات الأميركية في شرقيّ الفرات وسرقة النفط السوري على يد شركات أميركية.
شنّ بايدن هجوماً عنيفاً على إردوغان، واصفاً إيّاه بالمستبدّ


وأخيراً، وعلى رغم التصريحات الأميركية المؤيدة لأثينا ونيقوسيا وقبرص اليونانية، فإن الموقف الأميركي كان عملياً حيادياً تجاه الكباش التركي مع فرنسا واليونان في شرقي المتوسط. من جهة أخرى، فإن التدخل العسكري التركي في ليبيا ما كان ليتمّ من دون ضوء أخضر أميركي يهدف إلى إضعاف النفوذ الروسي في هذا البلد. كذلك، فإن الموقف الأميركي من النزاع بين أرمينيا وآذربيجان بدا خجولاً، بما أتاح لأنقرة التحرّك خلف باكو بأريحية ميدانية ملموسة.
في مجمل هذه المواقف الأميركية، كان ترامب يتحرّك بمعزل أو رغماً عن موقف مؤسسات الدولة العميقة، بل ضارباً بمواقفها عرض الحائط، على غرار الموقف من "كورونا" والتنازع مع اللجنة العلمية المحيطة به. على هذا، يُتوقَّع، في حال انتخاب ترامب مجدداً، أن تُواصل العلاقات الأميركية ــــ التركية تطوّرها إيجابياً، فيما سيكون للعلاقات الشخصية بين ترامب وإردوغان دور فاعل في تعزيزها. لا يعني ذلك أن العلاقات، خلال ولاية ثانية لترامب، ستكون مفروشة بالورود. إذ إن مؤسسات كالخارجية والدفاع والكونغرس تمارس دوراً ضاغطاً في بعض القضايا، ولا سيما في ما يتّصل بمسألة صواريخ "أس-400"، لا يمكن ترامب تجاهله بالكامل. ولكن يدرك الرئيس الأميركي أن تركيا وحدها قادرة على مواجهة النفوذ الروسي، وهي دولة أطلسيّة ليس من الحكمة رميها لقمة سائغة للدبّ الروسي. وعلى رغم كلّ ما يقال، فإن تركيا وآذربيجان، مدفوعتين بالرضى الأميركي، فتحتا جبهة جنوب القوقاز في وجه روسيا. مع ذلك، فإن ترامب ليس بالرجل الذي يثبت على مواقفه. لذا، لا يمكن الاعتماد عليه في استمرار العلاقات الجيّدة مع تركيا.
ويرى نائب رئيس مؤسسة "مارشال" الألمانية، إيان ليستر، أنه سواء جاء بايدن أو بقي ترامب، فإنه في موضوع "أس-400"، لا مفرّ من عقوبات أميركية على تركيا كانت في الأساس قد بدأت. لكنه يقول إن المرشّح الديموقراطي يبدو أكثر تصميماً على فرض عقوبات. من جهتهم، يرى محلّلون أتراك أنه في حال فوز بايدن، فسيكون التشدّد الأميركي تجاه روسيا؛ وفي حال جاء ترامب، سيكون التشدّد تجاه إيران. وفي كلتا الحالتين، فإن تركيا بلد مهمّ للولايات المتحدة، وخصوصاً أنها جارة لكلّ من روسيا وإيران. لكن اعتبارها بلداً مهمّاً لأميركا لا يعني أن في إمكانها أن تتدلّل. يقول مدير البرنامج التركي في معهد واشنطن، صونير تشاغبطاي، إنه إذا لم تزن تركيا سلوكها وفقاً لمعايير دقيقة، فإن الولايات المتحدة لن تبقى رهينة لها وستبحث عن بديل. مع ذلك، فإن الرئيس التركي، يضيف تشاغبطاي، يدور كما يدور الرؤساء الأميركيون، وسيسعى، في حال فوز بايدن، إلى أن يكسب قلبه، وسينجح في هذا. ويشير الكاتب في صحيفة "جمهورييت"، محمد علي غولير، بدوره، إلى أن ترامب وإردوغان يديران بلادهما بعقلية الشركة، وهو ما يجعلهما أكثر قدرة على فهم أحدهما الآخر والتوصّل إلى تفاهمات، بل على أن يغضّ الرئيس التركي الطرف عن وصف نظيره الأميركي له بالأحمق قبل حوالى سنة، ولا يردّ على رسالته المهينة.
أيّاً كان الرئيس المقبل، فإن العلاقات التركية ــــ الأميركية تعرّضت لاهتزازات كثيرة خلال السنوات الماضية، ولا تسير وفقاً لاستراتيجية ثابتة ومحدّدة، بل تبعاً للتطورات والمزاجات، وهو ما يجعل إعادة تنظيمها على أسس جديدة أولوية أيّ إدارة أميركية مقبلة.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا