تعود العلاقات الإيرانية الهندية، كما تلك الإيرانية الروسية، إلى انتصار الثورة الإيرانية في 1979. بلغت ذروتها في الاستقرار عام 1993، حين طرح للمرة الأولى مشروع ممر "شمال - جنوب" الدولي للتبادل التجاري، والذي يخوّل الهند الوصول إلى أوراسيا ويسمح لروسيا بالوصول إلى الدول الأوروبية وأسواقها بطريقة أسهل، ليتم بعدها الاتفاق على تفاصيل المشروع في عام 2000، ويصادق عليه رسمياً بين الدول الثلاث في عام 2002. عوامل عدة حالت دون التنفيذ الفعلي للمشروع الذي بدأ العمل عليه حينها، أهمّها تراجع الاستثمارات الهندية بشكل ملحوظ في الفترة الممتدة بين عامَي 2011 و2018، بذريعة العقوبات على إيران. وهي الفترة التي شهدت انتهاء العمل على الممر، بحيث أصبح جاهزاً للتدشين في أواخر 2016.
وفي تفاصيل الاتفاق، اعتمدت الأطراف على ربط الموانئ الهندية بالموانئ الإيرانية، وتحديداً مومباي وميناء تشابهار، وبعدها خط بري بجانب سكة حديدية داخل الأراضي الإيرانية، وصولاً إلى منطقة سان بطرسبرغ الروسية، عبر أذربيجان ومنها إلى الأراضي الأوروبية. ويتفرع من هذا الطريق الأساسي عدة طرق تصل إلى آسيا الوسطى وشرق آسيا وأوروبا، عبر الدول التي انضمت إلى الاتفاق لاحقاً، مثل أرمينيا، وروسيا البيضاء، وبلغاريا (في وضعية المراقب)، وكازاخستان، وقرغيزستان، وسلطنة عمان، وسوريا، وطاجيكستان، وتركيا، وأوكرانيا.
التدشين الفعلي للممرّ سيكون في الأيام القليلة المقبلة


اليوم، يعود تدشين هذا الممر إلى الواجهة، وهو المشروع الموازي لمشروع الصين الذي يستخدم ميناء بندر عباس الإيراني، ومن ثم يمر إلى المنطقة عبر أراضي باكستان المعادية للهند. وقد أعلن مدير السكك الحديد الإيراني، قبل أيام، أن التدشين الفعلي للممر سيكون في الأيام القليلة المقبلة، بعد الاتفاق على المباشرة فيه جراء الإصرار الهندي على استكماله، وخصوصاً بعد الرغبة التي أبدتها الصين في الانخراط فيه في حال استمرارية التقاعس الهندي، الأمر الذي دفع نيودلهي إلى العودة إلى المشروع لما فيه مصلحة كبيرة من الوصول إلى أوراسيا وآسيا الوسطى، بمعزل عن عدوّتها باكستان، بالإضافة إلى إقصاء الصين عن الانفراد بالعمليات التجارية وتعاظم قوتها الاقتصادية في المنطقة.
بالنسبة إلى خبراء إيرانيين، يأتي موعد تدشين هذا الطريق وإطلاقه في هذه الفترة نسبة إلى تراجع النفوذ الأميركي في المنطقة، أو ضعفه، وخصوصاً بعدما رفض المشروع الأميركي لوقف التسليح الإيراني في مجلس الأمن، في وقت تواصل فيه إدارة دونالد ترامب سياساتها تجاه طهران منذ الانسحاب من الاتفاق النووي، أي مضاعفة العقوبات.
يلفت متابعون إلى انخراط أذربيجان بقوة في المشروع بعد فترات من التردد، ومرده الاطمئنان إلى عدم وجود فيتو أميركي، بداعي مصالح واشنطن التي يمكن أن تتضرر أكثر في المنطقة في حال رفضها أو مجابهتها للمشروع، وخصوصاً في أفغانستان. وقد تم تشغيل خط السكك الحديدية الرابط بين كازاخستان وتركمانستان وإيران بطول يبلغ 677 كلم اعتباراً من عام 2014، بتكلفة بلغت 620 مليون دولار، وهو من الطرق المستخدمة في الممر الجديد، وبديل في حال تراجعت أذربيجان في وقت لاحق، بالإضافة إلى بقية الطرقات التي تبلغ 7200 كلم بين طرق بحرية وسكك حديدية وطرق برية.

ستكون قناة السويس أوّل المتضررين من المشروع


بحسب الخبير الاقتصادي حسن أحمديان، المطّلع على المشروع، فإن قناة السويس ستكون أوّل المتضررين من ممر "شمال - جنوب"، بحيث سيشكل المشروع بديلاً أوفر منها من ناحية الوقت والتكلفة وحتى العلاقات وسهولة التعامل، إضافة إلى أنه سيشكل متنفساً اقتصادياً ضخماً لإيران يعزز قرار تصفير الاعتماد على النفط في موازنة الدولة للعام الحالي، ويرفع العائدات والناتج المحلي الإيراني بشكل كبير نظراً إلى عمله الدائم على مدار السنة. ويضيف أحمديان إن المشروع، الذي نجح في النقل التجريبي منذ عام 2014، يوفر حوالى 40 في المئة من التكلفة والوقت، بحيث ستصل البضائع عبره في أقل بعشرين يوماً تقريباً من ذلك الذي تستغرقه عبر قناة السويس.
وبعد الدراسات التي قام بها جميع الأطراف، يتوقع أن يرتفع التبادل الروسي الهندي عبر إيران من 9 مليارات إلى 30 مليار دولار خلال السنوات العشر المقبلة، إضافة إلى توفير مبلغ 2500 دولار لكل 15 طناً من البضائع في عملية التبادل.
أمّا في الشق السياسي، وفي ظل تأثير المشروع على بكين ونفوذها في المنطقة، والتي تعتبر حليفاً اقتصادياً قوياً لطهران، فلا يتوقع الكاتب والمحلل السياسي عماد آبشناس، في حديث إلى "الأخبار"، توتراً في العلاقات الصينية الإيرانية في حال استكمل المشروع مع الهند "لأن المشروع ليس الطرح الوحيد بين الصين وإيران، فمجالات التعاون متعددة، وخصوصاً في ما يتعلق بخط مشابه من ميناء بندر عباس". ويتابع: "لا يخفى أن المصلحة الاستراتيجية لإيران تكمن في إتمام الاتفاق مع الطرف الهندي لما سيفتحه من آفاق جديدة لطهران؛ من تنوع اقتصادي وعلاقات دولية وعدم الاعتماد على دول محددة وحليفة فقط في الدورة الاقتصادية. ولكن تبقى المخاوف الأساسية من أي تراجع هندي جديد بعد السير في الممر، وبالتالي من الممكن أن تتوقف حركة الملاحة في أي وقت تتعرض فيه نيودلهي لضغط دولي، ولذلك يجب أن يكون هناك شروط واضحة وصريحة".

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا