في وقت تحوّلت فيه طهران إلى مقصد للمعزّين، ولحمَلة الرسائل بشأن المرحلة الأمنية والسياسية الجديدة في الإقليم، تخوض إيران معركة الحفاظ على إنجازها العسكري والأمني، المتمثّل في الرد على اغتيال الجنرال قاسم سليماني ورفاقه، بسابقة ضرب قاعدتين أميركيتين، في ظل تصدّر تبعات إسقاط الطائرة الأوكرانية للمشهد. الضربة الإيرانية لا تزال محطّ أنظار المراقبين، سواء من أصدقاء طهران في محور المقاومة أو أعدائها في الكيان الإسرائيلي. وفضلاً عن القراءات حول ما كشفته الضربة الصاروخية من قدرات إيرانية، وما أرسته من توازنات ولا سيما لجهة نجاح القصف الصاروخي وإصابته الأهداف النقطوية وحجم الدمار وطبيعته، فإن جانباً ممّا أفاد به الحرس الثوري غداة الهجوم لم يأخذ حيّزاً من المتابعة، وهو ما عاد وتم تسليط الأضواء عليه. إذ كان قائد القوة الجوفضائية التابعة للحرس الثوري، العميد علي حاجي زاده، قد كشف أنه إثر الغارة الصاروخية شنّت القوات الإيرانية هجوماً إلكترونياً استمر قرابة 15 دقيقة، تم بموجبه إخراج 8 طائرات مسيّرة من طراز «MQ-9» عن السيطرة الأميركية وقطع رابط الاتصال وإرسال الصور، والتي كان هدف تحليقها فوق قاعدة «عين الأسد» في العراق معاينة أضرار الهجوم.ونقلت وسائل الإعلام الإيرانية، أمس، عن قائد «الحرس الثوري» اللواء حسين سلامي، تقديمه شرحاً أمام البرلمان بشأن ظروف العمليات والأحداث الأخيرة في جلسة غير علنية. أكد اللواء سلامي المعلومات عن الهجوم الإلكتروني، مشيراً إلى أن الطائرات الأميركية اضطرت إلى الهبوط. ووصف ما جرى بأنه معركة «استخبارية تكنولوجية تقنية» تغلّبت فيها إيران «استراتيجياً وتكتيكياً»، رغم أن الأميركيين كانوا ليلة العمليات في ذروة الاستنفار. وبيّن أنه ليلة العمليات كان من المقرر قصف قاعدة التاجي، إلا أن قرب القاعدة من المدنيين في بغداد وإجراءات أميركية نقل بموجبها طيران ومعدات إلى «عين الأسد»، دفع إلى اختيار الأخيرة التي تبعد 160 كلم عن بغداد. وعن أسباب سرعة الرد، قال: «كنّا من جهة تحت الضغط لسرعة الرد من أجل الانتقام (...) ومن جهة أخرى، كان تنفيذ المعركة للحيلولة دون وقوع حرب كبرى». وأضاف: «لم يكن هدفنا تحقيق أضرار بشرية، لأنه لا أهمية لها... ففي هذه القاعدة، كانت تستقر أنواع المروحيات والطائرات المسيّرة، فضلاً عن مقر القيادة والسيطرة وكانت المنشآت تضم العديد من المعدات». وتابع: «أثبتنا قوتنا وندّيتنا، كما أننا كسرنا الاعتبار العالمي لأميركا... الدمار المادي الذي ألحقناه بالقواعد الأميركية كان فقط من أجل أن نقول إننا على قدر من التفوّق بحيث إننا قادرون على استهداف أي نقطة».
سلامي: ما جرى معركة استخبارية تكنولوجية تغلّبت فيها إيران استراتيجياً وتكتيكياً


هذه التفاصيل وغيرها، ورغم حضورها لدى من يعنيهم الأمر من كل الأطراف الإقليمية والدولية وتكشّف فصولها تباعاً، إلا أن كارثة الطائرة الأوكرانية طغت على المشهد الإيراني، وهو ما دفع قائد «الحرس» اللواء حسين سلامي، إلى القول: «غبار الحادثة المؤلمة لسقوط الطائرة الأوكرانية لم يسمح بالتعرّف إلى أبعاد هذا النصر العظيم الباهر»، مضيفاً إنه «يمكن الحديث لاحقاً بهذا الشأن بشكل أكثر دقة». وبرغم اعتراف الحرس الثوري بالمسؤولية عن خطأ بشري أدى إلى الاعتقاد بأن الطائرة هي صاروخ من نوع كروز في رد أميركي على قصف «عين الأسد» (ما تسبب بإسقاط الطائرة المدنية ومصرع ركابها الـ 176)، فإن مشاعر الغضب والحزن سيطرت على الإيرانيين، قادة وشعباً، بموازاة محاولات أميركية وبريطانية حثيثة لاستغلال المأساة، عبر دعم احتجاجات شهدتها العاصمة طهران وأماكن أخرى، وشارك فيها العشرات بحسب وكالات أنباء أجنبية، بينما طالبت باستقالة ومحاكمة المسؤولين عن الحادثة، وأطلق البعض فيها شعارات مناهضة للنظام. وإذ احتدم النقاش الداخلي في الجمهورية الإسلامية حول التأخير في الإقرار بالمسؤولية عن الحادثة، أكد المسؤولون أن التأخير جرى لأسباب تقنية تتعلّق بالتحقيق الأولي. وتواصل السلطات الإيرانية متابعة قضية الطائرة مع السلطات الأوكرانية والكندية، بموازاة التحقيق الداخلي للنظر في المسؤوليات. في الأثناء، ارتفعت حدّة الحرب النفسية على طهران، مع شائعات باستقالات كبار المسؤولين تم نفيها، وتصريحات أميركية قادها دونالد ترامب. إذ غرّد الأخير: «أقول لقادة إيران: لا تقتلوا متظاهريكم. آلاف الأشخاص قتلوا أو سجنوا أصلاً من جانبكم. العالم والأهم الولايات المتحدة، تراقبكم». في المقابل، تظاهر العشرات مطالبين بإغلاق السفارة البريطانية في طهران، إثر توقيف السفير البريطاني روب ماكير، لمدة 15 دقيقة، بتهمة المشاركة في احتجاجات إسقاط الطائرة. وفيما قال ماكير إنه كان يقدّم العزاء لضحايا الطائرة وسمع شعارات، احتجّت طهران أمس رسمياً على تحرّكات السفير البريطاني الذي عدّ التوقيف غير قانوني. في غضون ذلك، نفى وزير الدفاع الأميركي مارك أسبر، معلومات بشأن مخططات إيرانية لتفجير 4 سفارات، في موقف يناقض مزاعم أدلى بها ترامب حول نيات الجنرال سليماني. وقال أسبر إن بلاده مستعدة لمحاورة إيران «بدون شروط مسبقة، حول مسار جديد وسلسلة تدابير تجعل من إيران بلداً طبيعياً أكثر».
في الأثناء، لا تزال طهران محجّة الوفود الخارجية المعزية أو حاملة الرسائل، ولا سيما من دول الجوار. وأبرز هؤلاء أمير قطر تميم بن حمد آل ثاني، الذي التقى كلاً من الرئيس حسن روحاني والمرشد علي خامنئي. زيارة كانت لافتة في توقيتها لناحية ما تمر به طهران، من جهة، ووفاة سلطان عمان، الوسيط الأول بين طهران وواشنطن، بجانب كونها تجرى للمرة الأولى، من جهة ثانية. وفيما لم يفصح الجانبان عمّا إذا كان الأمير القطري حاملاً رسائل أميركية، ركّزت تصريحات الجانبين على رفع التبادل التجاري والحوار وخفض التصعيد لحل أزمات المنطقة. وقال خامنئي في اللقاء: «السبب في التطورات العنيفة في منطقتنا هو الوجود الذي يتسبب بالفساد لأميركا وجماعاتها»، مضيفاً: «يجب توسيع نطاق العلاقات الإيرانية ــــ القطرية، بالطبع أولئك الموجودون في تلك المنطقة في الطرف الآخر من العالم لا يحبّذون علاقات أكثر قرباً بين دول المنطقة، هذا ليس شأنهم ولن تقبل دول المنطقة هيمنتهم وتدخلهم».