استبشرت المؤسسة الإسرائيلية، بداية، بأن الولايات المتحدة انتقلت إلى مرحلة جديدة من المبادرة العملانية في مواجهة محور المقاومة، لكن النتائج الأولية المترتبة على ذلك خَيّبت آمالها ورهاناتها، سواء لجهة مفاعيل استشهاد الفريق سليماني في الداخل الإيراني، أو لجهة ما تبعه من ردّ صاروخي وارتداع أميركي عن الردّ المضاد. خيبةٌ تنبع من تقدير طالما روّج له رئيس وزراء العدو بنيامين نتنياهو وطاقمه، ومفاده أنه عندما تشعر الجمهورية الإسلامية بأن من سيتصدّى لها مباشرة هو الولايات المتحدة بجيشها وقدراتها التدميرية، فستجد نفسها أمام خيارين: إمّا التراجع وتقديم التنازلات، وإمّا تعرض نظامها لخطر السقوط أو الضعف، ومن الطبيعي والحال هذه، وعلى قاعدة أولوية حفظ النظام، أن تختار الخيار الأول. وقد جاء أسلوب القتل الأميركي لسليماني، وما تبعه من تهديد أميركي بالردّ على أيّ ردّ إيراني لإرباك القيادة الإيرانية وردعها، ليغري قادة العدوّ بصدقية التقدير المتقدم. لكن الصفعة الصاروخية التي تلقاها الجيش الأميركي خيّبت الرهان الإسرائيلي، وخصوصاً أنه لم يعقبها ردّ أميركي تناسبي أو تصاعدي، وهو ما يعني عملياً التأسيس لمسار مغاير كلياً لِما كان يتمّ التخطيط له.
ترى الأجهزة الأمنية الإسرائيلية أن من السابق لأوانه تحديد اتجاهات المسار الجديد في المنطقة
ترى الأجهزة الأمنية الإسرائيلية أن من السابق لأوانه تحديد اتجاهات ذلك المسار، لكنها تعتقد، وفقاً لتقارير إعلامية عبرية، أنه «في الأمد المتوسط ستتغير الصورة. وفي الأشهر القريبة قد نشعر بتأثير الحدث من ناحيتَي التهديدات والتصعيد الفعلي». وانطلاقاً من معرفة قادة تلك الأجهزة المسبقة بخشية الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، من النتائج الكارثية التي يمكن أن تترتب على التورط في حرب مع إيران، فهم أظهروا حذراً حيال التقديرات التي رأت أن اغتيال سليماني سيُغيّر سياسة ترامب في الشرق الأوسط، و«التي تتأثر بمصالح أميركية فقط». وانطلاقاً مما تقدّم، تصدّر المشهد الإسرائيلي، خلال الأيام الأخيرة، سيناريو الرعب المتمثل في خروج الولايات المتحدة من المنطقة، والذي يبدو أن إسرائيل لن تترك وسيلة للحؤول دون وقوعه، كون تحققه يعني أنها ستضطر إلى أن تحارب وحدها في مواجهة التمركز العسكري الإيراني في سوريا، وتطور قدرات حزب الله.
الرسائل التي حملتها الرؤوس الحربية لصواريخ إيران حضرت، وستحضر بالتأكيد، عبر أكثر من عنوان. فهي تؤكد، مرة أخرى، وفي سياق مواجهة عسكرية مع الجيش الأقوى في العالم، دقتها الهائلة في الإصابة، فضلاً عن كفاءة استثنائية في إدارتها وتوجيهها ليس في مناورة عسكرية، وإنما على أرض الميدان. كذلك، أثبتت قدرتها على تجاوز كل منظومات الاعتراض الأميركية، على رغم أن الجيش الأميركي كان في قمة الجاهزية والاستعداد لمواجهة سيناريو كهذا، ما يعني ــــ إسرائيلياً ــــ أن هذا النوع من الصواريخ، وغيره مما هو أكثر تطوراً ودقة وتدميراً، قادر بالتأكيد على استهداف منشآت إسرائيل الاستراتيجية العسكرية والاقتصادية والسياسية.
وإذا كانت إسرائيل تراهن على أن التهديد والتهويل بالتدمير ردّاً على أيّ استهداف لعمقها قد يردع صانع القرار في طهران، فقد تبدّدت هذه الرهانات مع سقوط الصواريخ في عين الأسد. وإذا كانت تراهن أيضاً على فاعلية منظوماتها الاعتراضية في إحباط الصواريخ الإيرانية، فقد سقط هذا الرهان بالتجربة العملية في مواجهة الجيش الأميركي. سقوط يبدو واضحاً في حديث الخبراء الإسرائيليين، ومنهم الباحث في «المركز المقدسي لشؤون الجمهور والدولة»، يوني بن مناحيم، الذي رأى أن «الهجوم الصاروخي الإيراني ضد القواعد الأميركية في العراق كشف عظمة الصناعة العسكرية الإيرانية». وسبق لرئيس أركان جيش العدو، أفيف كوخافي، في خطابه الأخير في «مؤتمر هرتسيليا»، أن قال إن «الصناعة العسكرية الإيرانية أكبر من كلّ الصناعات العسكرية الإسرائيلية».
لن يطول الوقت حتى يجد المستوى السياسي الإسرائيلي نفسه مضطراً إلى الكشف، علناً، عن مخاوفه من تداعيات المواجهة بين محور المقاومة والجيش الأميركي. كما لن تستطيع الرقابة العسكرية الإسرائيلية مواصلة ضغطها على الخبراء والمعلّقين في كيفية التعامل مع المنعطف الذي تشهده المنطقة. وإذا كانت هناك أيّ شبهة لدى الجهات المختصة بأن الوضع بات أقلّ خطراً مما كان عليه قبل اغتيال سليماني، فقد أوضح لهم الأمين العام لحزب الله، السيد حسن نصر الله، أمس، أنهم سيكتشفون خطأهم بالدم.