ليس من المبالغة القول إن قلّة قليلة من الكتّاب والمحلّلين الأميركيين راضية عن اغتيال قائد «فيلق القدس» في الحرس الثوري، الجنرال قاسم سليماني. فما عدا توماس فريدمان، الذي رأى في مقال في صحيفة «ذي نيويورك تايمز»، أن الإيرانيين سيشكرون الرئيس دونالد ترامب على هذه الخطوة، يندُر إيجاد كاتب مطمئن إلى تداعيات هذه العملية. من التحذير من «خطر يمثّله اغتيال سليماني» والذي أطلقه ديكستر فيلكنز في مجلة «ذي نيويوركر»، إلى البحث عن «كيفية تجنّب حرب جديدة في الشرق الأوسط»، الذي قامت به كيلي ماغسامن في مجلة «فورين أفيرز»، إلى افتتاحيتَي «ذي نيويورك تايمز» و«ذي واشنطن بوست» المشكّكتين في جدوى قرار ترامب الأخير، مروراً بفرانك مازيتي الذي حذّر في «ذي نيويورك تايمز» من رئيس متقلّب يملك صلاحيات فضفاضة وموسّعة.. ذخرت الصحف والمجلّات الأميركية، في اليومين الماضيين، بعناوين تحاول استكشاف التداعيات السلبية لما حصل على الولايات المتحدة، قبل إيران.فيلكنز، صاحب التقرير الطويل «The shadow commander» (قائد الظل) الذي ساهم في رسم شخصية سليماني في الغرب في عام 2013، حاول أمس تخيّل مشهد ما بعد اغتيال هذا القائد. بالنسبة إليه وإلى كثيرين، من غير المعروف ما ستؤول إليه الأوضاع، ولكن شيئاً واحداً بات واضحاً له، وهو «أننا ندخل مرحلة خطيرة، حيث يمكن للقتال بين البلدين (إيران والولايات المتحدة) أن يخرج عن السيطرة بسهولة». وانطلاقاً من فكرة أن «مقتل سليماني يعدّ ضربة ثقيلة للنظام الإيراني»، أكمل الكاتب ما كان قد بدأه من وصف لشخصية الرجل قبل أعوام، إذ أشار إلى أنه «لم يكن فقط الشخصية المركزية في الشأن السياسي والعسكري الإيراني الخارجي، بل كان يُعتبر دعامة في الثورة الإسلامية بحدّ ذاتها». ويضيف إنه «كان ماهراً في الدبلوماسية كما كان في الميدان، وكان مرتاحاً في التعامل مع الدبلوماسيين كما كان مع العسكريين على الجبهات الأمامية».
مثل هذا الوصف يفتح الباب على الأساس الذي بنى عليه ترامب فعلته، وهو ما أشارت إليه صحيفة «ذي واشنطن بوست» بأسلوب مختلف؛ إذ أكدت أن «سليماني كان عدواً»، لكنها استدركت بأن «هذا لا يعني أن ترامب اتخذ القرار الصحيح». بدت الصحيفة متشكّكة في «حكمة» قرار ترامب، وفيما إذا كان «يخدم المصالح الأميركية» بالفعل. وفيما استسلمت لفكرة أن تداعيات الضربة لا تزال غير معروفة، فقد توقعت أن الأثر المباشر سيكون جرّ الولايات المتحدة إلى مكان أكثر عمقاً في الشرق الأوسط ونزاعاته. ومن هنا، تساءلت: «هل فكّر ترامب ومساعدوه مليّاً بالردود الإيرانية المحتملة؟ هل تهيّأوا لها؟ هل تملك الإدارة هدفاً واضحاً؟».
تساؤلات منطقية تردّدت أيضاً في افتتاحية «ذي نيويورك تايمز» بأسلوب أكثر تفصيلاً. فقد طالبت الصحيفة الكونغرس بـ«إيقاف اندفاع ترامب نحو الحرب مع إيران»، مشكّكة في جدوى الوعيد الذي أطلقه أخيراً عبر موقع «تويتر»، ومتسائلة: «ألم يكن من المفترض أن يوقف اغتيال الجنرال سليماني التهديدات التي ادّعى الرئيس أن الولايات المتحدة تواجهها؟»، لتجيب بأن «اغتيال سليماني لم يردع أو يخفّف تصعيد أيّ شيء. وإلا لماذا احتاجت وزارة الخارجية إلى الطلب من كلّ الأميركيين مغادرة العراق؟». مع ذلك، رأت «ذي نيويورك تايمز» أنه «عبر الإعلان أن الولايات المتحدة ستردّ بضربات عسكرية على أيّ هجوم على أهداف وأصول أميركية، رسم ترامب خطاً أحمر فاقعاً لا يمكن لإيران أن تجتازه»، لكنها أشارت إلى أن «إيران تعتمد على شبكة وكلاء من اليمن، إلى سوريا والعراق ولبنان»، متسائلة: «هل سيحترم كلّ هؤلاء خط ترامب الأحمر؟».
لا يمكن لترامب أن يمنع منطقة كاملة من اجتياز ذلك الخطّ، وهو ما يحيل إلى البحث عن سبل لـ«تجنّب حرب جديدة في الشرق الأوسط». هذا ما حاولت كيلي ماغسامن القيام به في مقال في مجلة «فورين أفيرز»، تساءلت فيه عن كيفية «تخفيف التصعيد بعد مقتل سليماني». لم تجد المديرة السابقة في مجلس الأمن القومي في عهدَي جورج بوش الابن وباراك أوباما الكثير من الإجابات التي يمكن أن يعتمد عليها شخص متسرّع مثل ترامب.
طالبت «ذي نيويورك تايمز» الكونغرس بـ«إيقاف اندفاع ترامب نحو الحرب مع إيران»

فالرئيس الذي لا يملك رؤية واضحة لسياسته الخارجية، والذي يكره التخطيط، بحاجة إلى «استراتيجية تقوم على أكثر من الردّ على التحركات التكتيكية الإيرانية»، وفق الكاتبة، بل إن إدارة أكثر الرؤساء الأميركيين استفزازاً بحاجة إلى أن «ترسل رسائل واضحة ومتّسقة غير مستفزة» إلى الإيرانيين، بناءً على تعبيرها. وإلى أبعد من ذلك ذهبت ماغسامن، مطالِبةً ترامب، الذي يفضّل العمل بانفراد، بأن «ينسّق مع حلفاء بلاده، ويسعى إلى فتح قناة دبلوماسية مع طهران، عبر طرف ثالث إذا كان ذلك ضرورياً»، ولا سيما أنه كان قد ترك نفسه من دون قنوات دبلوماسية، وفي مواجهة «مجتمع دولي» منقسم، وكونغرس متشكك. لم تهتمّ الباحثة بالشأن الخارجي فقط، بل أعربت عن اعتقادها بأنه بات على ترامب وفريقه السعي للحصول على ثقة الشعب الأميركي، وإقناعه بأن المعلومات الاستخبارية تبرّر القرار الأخير. في الواقع، لن تكون هذه المهمة سهلة، ولكن، بحسب ماغسامن، ستكون صعبة على ترامب أكثر من أيّ رئيس آخر، وخصوصاً أنه سيتعيّن عليه عرض خطة إدارته لتجنّب حرب جديدة في الشرق الأوسط لا يريدها الرأي العام الأميركي.
بالمُجمل، يدرك الجزء الأكبر من المحلّلين والمراقبين الأميركيين أن الولايات المتحدة باتت، مرة أخرى، على حافّة التوغّل في قتال عسكري في الشرق الأوسط. قتالٌ، يبدو أن لا ترامب ولا فريقه للأمن القومي يمسكان بما سيأتي لاحقاً في سياقه. وبحسب ما يحذّر منه كثيرون، فإن الشعب الأميركي هو الذي سيحمل وزر «تهوّر» رئيسه، على مدى الأيام والسنوات المقبلة.