على الاتحاد الأوروبي أن يتلقّى الرسالة الفرنسية وأن يعمل على تعزيز استقلالية الدفاع الأوروبي
إشارة الرئيس الفرنسي إلى ضرورة إيجاد بديل عن «الناتو» على المستوى الأوروبي، وحالة «الموت السريري» لهذا الحلف، لم تكن مفاجئة بالنسبة إلى مَن يتتبّع الدبلوماسية الفرنسية بقيادة ماكرون، كون الأخير، نفسه، هو من أطلق من جامعة «السوربون»، في أيلول/ سبتمبر 2017، «المبادرة من أجل أوروبا، أوروبا سيدة موحّدة وديمقراطية». ومن أجل حمايتها داخلياً وخارجياً، تقترح هذه المبادرة تعزيز استقلالية أوروبا على مستوى الدفاع ــ على أن يكون لـ«الناتو» دور مكمِّل في هذا السياق ــ، والعمل على خلق وتطوير ثقافة استراتيجية أوروبية مشتركة، وإنشاء صندوق أوروبي مشترك للدفاع. ومِن المستغرب أن تصريح ماكرون أثار غضب نظيره الأميركي دونالد ترامب، بالنظر إلى أن هذا الأخير آثر على انتقاد الحلف الذي يمثّل «عبئاً» على الموازنة الأميركية، داعياً حلفاءه الأوروبيين إلى زيادة مساهمتهم في موازنة الحلف.
هذا التناقض الجوهري المضمر لسياسة واشنطن تجاه الأوروبيين، وخصوصاً فرنسا، غالباً ما يظهر في أوقات الأزمات. ولطالما طالبت الولايات المتحدة أوروبا بتعزيز قدراتها الدفاعية، لكنّ المفارقة أنه عندما تبادر هذه الأخيرة للعمل من أجل استقلاليتها على المستوى الدفاعي، فإن ذلك لا يلقى استحساناً أميركياً. سعى جاك شيراك في عهده إلى أن يتولى الاتحاد الأوروبي مسؤولية الدفاع من خلال الانفتاح على روسيا، وأخذ مسافة من الولايات المتحدة، ما دفع الإدارة الأميركية، في ذلك الوقت، إلى وضع حدود لـ«أوروبا للدفاع»، وهو ما تكرّر مع معارضة فرنسا وألمانيا لاحتلال العراق عام 2003، وهذا ما نشهده اليوم من خلال الحملة ضد ماكرون، الذي أعاد طرح النقاش حول مستقبل «الأطلسي» وماهيته السياسية والاستراتيجية، بعيداً عن النقاش الأميركي الذي يدور في فلك المساهمات المالية لأعضائه (مساهمة 2% لجميع الأعضاء من الناتج المحلي الإجمالي)، خصوصاً في ظل الانسحاب الأميركي من المنطقة، والإحباط الأوروبي من سياسات ترامب الانعزالية والحمائية، وغياب استراتيجية واضحة للسياسة الخارجية الأميركية، ما دفع بعض الدول الحليفة لواشنطن إلى تنويع حلفائها (دول الخليج نموذجاً ــ تعزيز العلاقات مع الصين وروسيا).
أخيراً، مهما بلغت حدة الانتقاد الأميركي لهذا الحلف، يبقى لديه بعدٌ استراتيجي وجيوسياسي مهم بالنسبة إلى الولايات المتحدة، لا يمكن التخلي عنه. ويختصر تصريح أول أمين عام لـ«الناتو»، هاستينغز إسماي، حين قال: «هدفنا هو إبعاد الروس وإبقاء الأميركيين»، النظرة الأميركية إلى الحلف. على المدى المتوسط، سيبقى «الأطلسي» الأداة الرئيسة للدفاع عن أوروبا، ولكن ستظهر بعض المبادرات الأوروبية «المكمِّلة» لهذا الدور، وعلى الاتحاد الأوروبي أن يتلقّى الرسالة الفرنسية وأن يعمل على تعزيز استقلالية الدفاع الأوروبي، لأن مستقبل أوروبا يبدو «أوراسياً» وليس «أطلسياً»، في ظل تراجع الدور الأميركي على مستوى العالم.