من الغريب أن الأميركيين ــــ باحثين وعسكريين ومؤسسات دولة ــــ يرسمون، منذ سنوات طويلة، احتمالات للحرب مع إيران، وسيناريوات عن شكلها وكلفتها، فيما الكلام عنها في بلادنا يظلّ على مستوى العموميات (أي بين من يتمنّى الحرب ويراهن عليها، ومن يهدد ويتوعّد ويحسم الأمور مسبقاً... إلخ). هذا، على الرغم من أن بلادنا ستكون هي موقع الانفجار، وأن الأضرار فيها لن تقتصر على هوجة الحرب وحدها ــــ التي من الممكن أن تكون طويلة أو قصيرة، محدودة أو ممتدّة في الإقليم ــــ بل إن حرباً في الخليج، بحسب أكثر المحللين، ستكون فاتحةً لعهد جديد من الاشتباك المستمرّ قد يدوم لسنوات قادمة.إن الصعوبة في تخيّل تفاصيل الحرب القادمة هي التي تجعل الحرب مسألة نظرية بالنسبة إلى الكثيرين، رهاناً يسهل ركوبه. وهناك ميل إنساني عام إلى أن لا تفكر كثيراً في الأمور التي لا تقع تحت سيطرتك (البعض يزعم أنها ستدور على شاكلة حروب ماضية، وهذا الخطأ الأول الذي يمكن أن ترتكبه في هذا الإطار). هذه المشكلة المعرفية هي التي تجعل الكثير من العرب، مثلاً، يتحمّسون للحرب من غير أن يدركوا أنها، إن وقعت، سيكونون هم ـــ كيفما دارت الأمور ـــ أول ضحاياها وأكبرهم.

النظرية الأميركية
حتى نفهم سياق المواجهة ـــ عسكرياً ــــ في الخليج، يجب أن نعود قليلاً إلى أساسيات «طريقة الحرب الأميركية» كما تشكّلت بعد تجربة فييتنام. في تقرير من عام 2011 لـ«مركز تقدير الاستراتيجيا والميزانية» عن احتمالات الحرب مع إيران (وهو من المراكز البحثية المرموقة التي تتشابك مع وزارات الدفاع في أكثر من بلد غربي)، يلخّص المؤلّفون عقيدة «الحرب الاستعمارية الحديثة» كما تراها واشنطن. بعد فييتنام، تقرّر أن التركيز على حرب في المسرح الأوروبي لا يجب أن يظلّ الهمّ الحصري للمخططين الأميركيين، بل يجب بناء إمكانية للتدخّل بفعالية في أيّ مكان في العالم، حتى لا يتوهّم خصوم أميركا أن في وسعهم تحدّيها وتغيير الأوضاع في أماكن قصيّة أو مناطق ثانوية، مراهنين على أن واشنطن لن تتحمّل عناء تحريك جيشها للتدخل هناك. الحلّ، يقول التقرير، كان في بناء شبكة من القواعد العسكرية (جوية وبحرية) حول العالم، تشكّل «منصّة قفز» آمنة ضدّ أيّ عدو في أيّ مكان. بتعابير المؤلفين، إن «(الاستراتيجية العسكرية الأميركية بعد فييتنام) تقوم على افتراض أن القوات الأميركية ستتمكّن من الانتشار بسرعة، والعمل في حالة من شبه المناعة انطلاقاً من قواعد قريبة من العدو الإقليمي». ثمّ يضيفون أن هذه المعادلة قد نجحت في الردع خلال الحرب الباردة، ونجحت كذلك في الحروب التي تلتها ضدّ العراق وغيره.
بمعنى آخر، إن الخطة الأميركية تشبه إلى حدّ بعيد المنهج الإسرائيلي في حروبه ضدّ دول الطوق: تستخدم قواعدك الخلفية لفرض سيطرة جوية فوق سماء الخصم، ثم تدمر ـــ من الجو ــــ قدراته الهجومية وعقد اتصالاته وقطعاته العسكرية... إلخ. وإن دخل جيشك المعركة برّاً، فهو يدخل تحت حماية هذه المظلّة الجوية التي لا تغيب عن السماء، ويخترق خطوط عدو مضعضع، دُمّرت بالفعل أكثر وحداته. في وسعك أن تلكم عدوّك باستمرار فيما هو لا يطالك بقبضته. وهذه العملية، بأكملها، تقوم على أنك تملك قواعد متقدمة آمنة، قريبة من مسرح العمليات، تخرج منها طائراتك وينطلق منها جنودك للغزو.
من شبه المستحيل أن تمنع خصماً لديه بعض الذكاء من أن يطلق صواريخه باستمرار


الصعوبة في حرب أميركية ضدّ إيران لا تتعلّق بميزان القوى وأعداد الطائرات، فهذه محسومة سلفاً وبفارق كبير، بل هي في إمكانية تطبيق «النمط الأميركي من الحرب» في يومنا هذا، وفي مسرح الخليج العربي. السلاح في ذاته ليس مهماً، إلا لأنه يعطيك قدرة ما، فلا فرق كبيراً بين أن تمتلك ألف طائرة أو ثلاثة آلاف طائرة في وجه خصم بحجم إيران، إن لم تتمكّن من الوصول إلى العمق الإيراني. الصواريخ الإيرانية، على المقلب الآخر، لا قيمة لها إلا بفضل جغرافيا الخليج والمسافات التي تفصل بين دوله. صاروخ تكتيكي صغير مثل «الفاتح» ومشتقاته، على سبيل المثال (يراوح مداه بين 300-750 كيلومتر، وألف كيلومتر لنسخته الأحدث، «دزفول») لن تكون له أهمية كبرى في دولة مثل روسيا. لكنه، من الحدود الإيرانية، يطال أكثر القواعد الأميركية التي تشكّل «طوق الحرب» ضدّ إيران، من «العُديد» في قطر، إلى «بَغرام» في أفغانستان.
العنصر الذي منع، حتى اليوم، حرباً ضدّ إيران هو أنها ستكون (على عكس الحملات السابقة) معركةً يوجّه الطرف الآخر فيها اللكمات أيضاً، وقد لا تكون القواعد الأمامية التي تنطلق منها الحرب آمنة أو حتى قابلة للاستخدام، ولن تتمكّن أميركا من خوض حرب جوية ضد الخصم من دون اعتبار للزمن والخسائر. بحسب التقرير المذكور أعلاه، فإنه في غياب القواعد الجوية في الخليج وإمكانية التزويد بالوقود فوق مياهه، لن تقدر أغلب مقاتلات سلاح الجو الأميركي على اختراق العمق الإيراني، ولن تطال ــــ مع التزويد بالوقود في الجو ــــ إلا أجزاءً صغيرة في الزاوية الشمالية الغربية والجنوبية الشرقية من إيران. هذه، بالمناسبة، هي القواعد الطبيعية للحرب منذ بدء التاريخ. فكرة أن تضمّ رأسك وتتلقّى الضربات وتعتمد حصراً على الدفاع هي استراتيجية قد تنفع في ألعاب الكمبيوتر (إن كنت تلعب على مستوى صعوبة منخفض)، ولكن، في العالم الحقيقي، من يكتفي بالدّفاع ويُحاصَر سيُهزم دوماً في آخر المطاف.
ما يسهّل، إذاً، حرباً ضدّ إيران هو رهان أميركي على أن سلاح الجوّ سيتمكّن من تعطيل القدرة الصاروخية الإيرانية خلال وقت وجيز، أو أن هذه الصواريخ ستكون غير فعالة وخسائرها محتملة، أو أن واشنطن ستقدر على ردع طهران، بالتهديد بمزيد من القوة، عن استخدام هذه القدرة من الأساس.

الصاروخ وحاملة الطائرات
بالنسبة إلى الافتراض الأول: ثمة درس أساسي من حروب العراق ولبنان وغزة، وخلاصةٌ فهمها الإيرانيون جيداً، هي أنّ من شبه المستحيل أن تمنع خصماً لديه بعض الذكاء من أن يطلق صواريخه باستمرار، حتى مع وجود سيطرة جوية معادية. الطيران العراقي خرج من المعركة منذ اللحظات الأولى، لكن صواريخ الـ«سكود» ظلّت تنطلق حتى آخر أيام الحرب، وقد نجت منها أكثر قاذفات الصواريخ المتحركة (هذا في بلد أكثره صحارى منبسطة، من الصعب الاختباء فيها أو التحصن، وهي تخضع لمراقبة مستمرة من أضخم قوة جوية في العالم). لبنان مثّل إثبات قدرة إضافياً: مع سيطرة جوية كاملة للعدو، وطيرانه لا يتعرّض للمضايقة حتى، لم تتمكّن إسرائيل من إيقاف ـــ أو إبطاء ـــ دفق الصواريخ طوال أيام الحرب، وذلك في جبهة متناهية الصغر، طولها ستون كيلومتراً وعرضها أقلّ من ثلاثين. وفي غزة، حصل الأمر نفسه، مع أنها أقل مساحة، وليس فيها جبال ووديان وغطاء نباتي. والحرب الجوية الكاسحة، في الوقت نفسه، لم تتمكّن من سلب مقاوم ــــ مستعد ومتحصن ويمتلك روحية ــــ فعاليته في القتال خلال المواجهة البرية.
من جهة أخرى، إن أنظمة الدفاع الصاروخي المضادّة قد أثبتت أيضاً أنه لا يمكن الاعتماد عليها، وبخاصّةٍ في وجه خصمٍ يمتلك ترسانةً صاروخية كبيرة وبراعة في استخدام قدراته. عدا عن المصاعب الجوهرية التي تكتنف عملية اعتراض الصواريخ البالستيّة (كما يقول المعلّق الأميركي غاري بريكر، بأسلوبه الساخر، من الأسهل بكثير أن تصنع مسدساً يطلق رصاصة من أن تصنع رصاصةً تصيب الرصاصة الأولى وهي في الهواء) فإنّ المهاجم هنا يمتلك دوماً أفضلية: على المدافع أن ينشر بطارياته المضادّة حول كلّ الأهداف المهمّة لديه، فيما المهاجم يقدر على تركيز كامل قوته الصاروخية (أو «الرشقة» التي يستطيع إطلاقها بشكل شبه متزامن) ضدّ جزء واحد من هذه المنظومة. والصواريخ الإيرانية التي يمكن أن تطال الخليج يجري إنتاجها منذ زمن طويل (عشر سنوات أو أكثر)، وهناك بالتأكيد مخزون كبير منها.

حين تتحوّل الصواريخ الباليستية إلى صواريخ موجّهة دقيقة، فإن ذلك يغير كل شيء (أ ف ب )

هذه ليست أسلحة متقدمة أو مبهرة تكنولوجياً، ولكنها الوسيلة «الأكثر اقتصادية» لتحقيق الهدف هنا. سأعطي مثالاً واحداً من عائلة الصواريخ الإيرانية، وهو صاروخ (اختُبر عملياً في الميدان خلال السنوات الماضية) اسمه «قيام»، يلخّص قصة أكثر الأسلحة التي تصنعها إيران. «قيام»، فعلياً، هو تطويرٌ لصاروخ «سكود» القديم الذي يعود إلى الستينيات (وله علاقة بالـ«في-2» الألماني). ولكنك لن تعرف ذلك لو نظرت إلى الصاروخ الإيراني. أفضل طريقة لتوصيف «قيام»، أنه أرقى درجة يمكن أن توصل إليها الـ«سكود» من دون أن تغيّر تصميمه جذرياً أو تستبدل محرّكه: تأخذ الصاروخ السوفياتي القديم، تزيل زعانفه وتستبدل بها نظاماً حديثاً للتوجيه بالنفاثات، فيصبح تخزينه وإطلاقه أسهل، وتزداد سرعته ومداه. تستبدل هيكله الحديدي بالألمنيوم وألياف الكاربون، فيقلّ وزنه ويزداد مداه. تجعل رأسه الحربي ينفصل عن جسد الصاروخ بعد نفاد الوقود، فيصبح أكثر دقة بمراحل واعتراضه أصعب بكثير، ويمكنك أن تضع عليه رأساً يوجّه نفسه إلى الهدف حتى اللحظة الأخيرة ويصيبه بدقة نقطوية... إلخ. وأنت تملك أصلاً خطوط الإنتاج، وتصنع أجزاء الصاروخ منذ أمد بعيد، ويمكنك أن تنتجه بأعداد كبيرة وبكلفة زهيدة للغاية؛ فلا مواد نادرة، ولا تكنولوجيا فائقة تحتاج إلى الاستيراد هنا. وهكذا يصبح لديك صاروخٌ يقدر على وضع أكثر من 750 كيلوغراماً من المتفجّرات فوق أيّ نقطة بين الرياض وكابول.
بالمثل، فإن نظام الدفاع الجوي الايراني الذي أسقط طائرة الاستطلاع الأميركية يوم الخميس، هو خليطٌ بين تكنولوجيا روسية وغير روسية جديدة وقديمة (تعود أصولها إلى «سام-6» العتيق)، ولكنه في المحصلة نظامٌ برادار حديث ومدى فائق (أكثر من 100 كيلومتر)، ومتحرك وسهل الاختباء، وقد أثبت نفسه للتوّ في مواجهة طائرة مصمّمة خصيصاً للحرب الإلكترونية والتقاط بثّ الرادارات ومنعها من التصويب عليها. لا أحد يمكن أن يعرف الكلفة الدقيقة لبرامج مثل «قيام» أو «الثالث من خُرداد» (الذي أسقط الطائرة الأميركية)، وثمن كلّ وحدة يجري إنتاجها، ولكنه بالتأكيد «مسخرة» أمام ثمن بطاريات الـ«ثاد» والـ«باتريوت» وغيرها من الأسلحة الأميركية التي تشتريها دول الخليج. على الهامش: بعد إسقاط الطائرة الأميركية (وهي بالمناسبة ليست من أفضل طائرات الاستطلاع في ترسانة واشنطن فحسب، بل هي كانت نموذجاً اختبارياً في مهمة سرية، واستُقدِمَت منذ أيام من قاعدتها في أميركا)، خرجت أخبار لم تتأكد عن أن الصاروخ الإيراني المسؤول عن الإسقاط هو من طراز «صيّاد-2». وهذا ما يخلق مفارقة تاريخية طريفة: «صيّاد» مبني على «ستاندارد» الأميركي الذي سلّمته واشنطن للبحرية الإيرانية في زمن الشاه، ثم نُسِخ وحُدِّث وبُنِيَت نسخات متعددة منه. تخيّل أن يمرّ صاروخ أميركي بعدّة أجيال من التطوير ليُسقط «حفيده»، فخر الصناعة الأميركية، بعد أكثر من أربعين عاماً.

أن تركض صوب الهلاك
العنصر الأخير الذي يكمل المعادلة هنا هو انتشار أنظمة التوجيه الدقيقة بين «الدول الفقيرة». في تقرير «مركز تقدير الاستراتيجيا والموازنة» اقتباسٌ لنائب سابق لوزير الدفاع الأميركي يلخّص هذه النقطة. «قدرة الضرب بدقة»، يقول ويليام لين الذي عمل مع بيل كلينتون، ظلّت «احتكاراً» للجيش الأميركي وحلفائه منذ حرب الخليج عام 1991 حتى أيامنا هذه، ولكنه احتكار على وشك أن يُكسر (وهذا قد حصل بالفعل في حالة الصين وروسيا وإيران. لين قال كلامه هذا عام 2011). أنظمة التوجيه والاستطلاع ومعداتها (لايزر، كاميرات، الحواسيب، وحتى أجزاء الرادار) أصبحت أصغر حجماً وأقلّ كلفة من الماضي، ولم يعد الحصول عليها أو إنتاجها صعباً أو مكلفاً. حين تتحوّل الصواريخ الباليستية إلى صواريخ موجّهة دقيقة، فإن ذلك يغير كل شيء، ولا يقلّ في تأثيره عن دخول الأسلحة الدقيقة إلى الترسانة الجوية الأميركية وولادة عقيدة الحرب الجوية التي تحطّم العدو عن بعد. بدلاً من عدة غارات لضرب هدف، أصبحت الغارة الواحدة تضرب أربعة أهداف. وبدلاً من التصويب على «المحيط العام» للهدف، أصبح في وسعك اختيار أيّ جزء من المبنى سيصيبه الصاروخ. حين تقرأ عن «حرب الناقلات» خلال الثمانينيات، تكتشف كم كان من الصعب أيامها أن ترصد السفن (المدنية) في الأساس وأن تلاحق مسارها، وأن توصل المعلومة في الوقت المناسب، فضلاً عن أن تصيبها بصاروخ. اليوم، مع الرادارات الحديثة ووسائط الاستطلاع الكثيفة، أصبحت كلّ سفينة في «بحيرة» الخليج هدفاً مكشوفاً في أي وقت (والهضبة الإيرانية، مقابل الخليج، هي عبارة عن «حاملة طائرات كبيرة» لا يمكن إغراقها، يمكن أن تطلق منها الصواريخ المضادة للسفن من على الشواطئ والتلال والطرقات العامة). من هنا، تقصّدت طهران في بيانها عن إسقاط الطائرة الأميركية المُسيّرة أن تذكّر بالموعد الدقيق لإقلاعها، وأن ترسم كامل مسارها، في إشارة إلى أنها تلتقط الطائرات الأميركية على الرادار، ما إن ترتفع عن مدارجها.
العنصر الذي يمنع حرباً ضدّ إيران، أنها ستكون معركةً يوجّه الطرف الآخر فيها اللكمات أيضاً


ولكن، كل هذه التقارير تتكلم عن تأثير الصواريخ المحتمل على القواعد الأميركية، أو البحرية في الخليج، أو على حركة النفط وتجارته، ولكن لا أحد تقريباً يهتمّ بما سيحصل للبلاد التي تحتضن هذه القواعد الأميركية والتي ستدخل معها، حكماً، وتكون طرفاً في أي حرب أميركية ضدّ إيران. ماذا يعني بالنسبة إلى دول الخليج أن تصبح كامل المنطقة المحاذية لها، وبقطر 600 كيلومتر، منطقة نار وقصف؟ يقول غاري بريكر، في حلقة إذاعية من عام 2018، إن حرباً بين إيران والسعودية ستعني «نهاية السعودية» (ويضيف أن ذلك لن يحصل لأن أميركا ستتدخل، ثم يضيف أن الحرب الأميركية مع إيران مرشّحة لأن تصبح نووية، خاصة إن تلقّت واشنطن ضربة قاسية، أو خسرت قطعاً بحرية مهمة). لكن هذا التقييم ليس من فراغ: السعودية والإمارات وقطر والكويت والبحرين هي دولٌ تعتاش على تحلية المياه حتى يشرب أهلها، وعلى استيراد كل شيء ونقله، من النفط إلى الطعام. ومحطات الكهرباء، قرب محطات التحلية، أكثرها على ساحل الخليج (وأنت لا تحتاج إلى ضرب معمل التوليد نفسه حتى، بل يكفي ضرب محطات تحويل وتوزيع هشّة، حتى لا يعود في الإمكان استخدام الطاقة التي تنتجها المعامل). يخبرني صديقٌ عاش في دبي أمداً طويلاً عن انقطاع للتيار حدث فيما المدينة في بداية توسعها (والكثير من المصالح ليست لديها مولدات احتياطية). دعك من انقطاع المياه والتكييف: الهواتف توقفت عن العمل، لا إنترنت، إشارات المرور تعطّلت، الناس لا يعرفون حتى ما يجري. لولا أن حكام دول الخليج وإعلامه يبدون حماسةً للحرب مع إيران ويشجّعون عليها، لقلت إنهم مساكين، مجبرون على مواجهة هذه المخاطر الكالحة، وإن هذا هو ثمن الاستعمار والتبعية. بصرف النظر عن أي شيء آخر، إنّ من يكون اقتصاده ومجتمعه بهذه المواصفات، لا يدعو عادة إلى الحرب المدمّرة ويستجلبها (إلا أن يملك سلاحاً سرياً ــــ أو سحرياً ــــ لا نعرف عنه).

خاتمة: عن تقلّب الأيام
لدي مشكلة مع التحليلات التي تجزم باستمرار بـ«أفول الإمبراطورية الأميركية»، وأنها تعيش سنواتها الأخيرة. لا أجد هذا الكلام صحيحاً أو مفيداً. حتى إن كان هدفك أن تشجّع الناس وترفع معنوياتهم، فأنت من المفروض أن تحثّهم على العمل وأن الظفر في المتناول، لا أن عدوّهم على وشك السقوط من تلقاء نفسه (بماذا نفعتنا التحليلات المكرورة، منذ عقود، عن «الضعف الداخلي» الكامن في إسرائيل، وأن الصهاينة على وشك أن يقتتلوا طائفياً وعرقياً، وأن يهزموا أنفسهم بأنفسهم؟). من جهة أخرى، كما يقول أسعد أبو خليل، إن أفول الإمبراطوريات عملية تاريخية طويلة، قد تستمر قرناً مثلاً، والإمبراطورية تقدر على التدمير وهي في مسارها التنازلي، تماماً كقدرتها وهي في عزّها (بتعابير أخرى، حين تقول إن الإمبراطورية على وشك التفكّك، هل تقصد السنة القادمة أم بعد أربعين عاماً؟ فالأمر يختلف كثيراً). ولكن، إن كان التاريخ يعمل على شاكلة تبدّل بطيء للموازين ولتوزع القوة، فإن ما نشهده في إقليمنا منذ سنوات (من لبنان إلى اليمن)، وما قد تشهده الحرب القادمة من تبادل للقصف والإيجاع، هو بمثابة «ترجمة عملية» لهذا التبدّل في الأحوال. نحن لسنا في زمن التصدّع في الثمانينيات، ولا في سنوات التسعينيات الصعبة، والغد سيكون أفضل من اليوم.
إن قامت حربٌ، فالضحية الأولى والأهمّ لها هم الأبرياء الذين سيسقطون على ضفّتَي الخليج، وهي ستكون من غير شكّ مواجهة فظيعة وصعبة، لن نخرج منها كما دخلناها. هنا قصة من الماضي القريب تدلّ على أنك قادر، حتى في زمن الهزيمة، على زرع بذور النصر. القصة هي من المواجهة الأولى بين إيران وأميركا على مياه الخليج، عام 1988، حين دمّرت أميركا البحرية الإيرانية وهي في أوج حربها ضدّ العراق (وأصبحت دروس تلك المواجهة أساساً لبناء عقيدة القتال الإيرانية اليوم). في بداية العملية («عملية فرس النبي»)، قرّرت أميركا أن تضرب منصتَي نفط كان الحرس الثوري الإيراني يستخدمهما للاستطلاع واستهداف الناقلات والسفن التي تعبر هرمز (يؤكد تفاصيل القصة الكاتب الفرنسي، بيار رازو، في كتابه عن الحرب العراقية الإيرانية ــــ منشورات هارفرد، 2015). وصلت قوة أميركية كبيرة، ضمنها مدمرات وسفن إبرار وحوامات، إلى المنصّة الأولى، وطلبت من الجنود إخلاءها خلال عشرين دقيقة قبل أن تُقصَف، فخرج الجنود على زوارق قبل تدمير المنصة عن بعد، ومن ثم إبرار (إنزال) جنود أميركيين عليها. انتقل الهجوم بعدها إلى المنصّة الثانية (كان اسمها «ناصر»)، وهنا أيضاً امتثل الإيرانيون للتحذير وتخلّوا عن المنصّة. قصفت السفن الأميركية الهيكل المعدني بعد ذلك لأكثر من ساعة، ولكن حين اقترب مشاة البحرية الأميركيون من المنصة ليعتلوها، بعد أن اطمأنوا إلى خلوّها، فاجأتهم نيران كثيفة تنطلق منها. تبيّن أن عدداً من الجنود الإيرانيين، بين العشرة والعشرين، قرروا أن يظلّوا مختبئين بعد أن يرحل رفاقهم لينصبوا كميناً للقوة الأميركية، وهم يعرفون أن أكثرهم قد يموت أصلاً خلال القصف التمهيدي قبل أن تتاح له الفرصة لإطلاق رصاصة. استدعى الِأميركيون هنا الحوامات الهجومية، التي مشّطت المنصّة لساعة أخرى بالرشاشات الثقيلة والصواريخ. الفكرة هنا هي ما دار في خلد هؤلاء المتطوّعين وقتها. هم كانوا يعلمون، بلا ريب، أنهم يختارون الموت، وأن مركزهم في عرض البحر ساقط لا محالة. المسألة هي أنهم، مع معرفتهم بالنتيجة النهائية، رفضوا أن يسجّل التاريخ أنهم قد انسحبوا من موقعهم من غير أن يدفع الأميركيون أي ثمن، وقد كان لهم ذلك؛ إذ لم تخمد المعركة قبل أن يُسقطوا إحدى الحوامات التي قتلتهم، ولم يأخذ العدو شيئاً بالمجان.