طهران | خلافاً لما كان يتوقّعه الرئيس الأميركي، لم يترك إنهاء الإعفاءات التي مُنحت قبل ستة أشهر لثماني دول لشراء النفط الإيراني، بهدف تصفير صادرات طهران من الخام، تأثيراً ملحوظاً على السوق الإيرانية. وخلافاً لما شهدته سوق العملة الصعبة قبل عام، عند إعلان دونالد ترامب انسحاب بلاده من الاتفاق النووي، من تراجع للعملة الإيرانية بشكل شبه يومي أمام الدولار، يبدو الآن أن الاقتصاد الإيراني استعاد ثقته بالنفس ومناعة ذاتية يتمكّن معها من الصمود أمام الموجات الجديدة للعقوبات.الرئيس الأميركي فعل كلّ ما كان بوسعه أن يفعل عند إعلانه انسحاب بلاده من الاتفاق النووي، وذلك على دفعتين: إعادة العقوبات النووية السابقة، وفرض عقوبات جديدة لا مثيل لها، هي الأقسى التي يمكن فرضها على أيّ بلد وفق ترامب نفسه، وجاء الآن دور إيران لتجرب حظها في الحدّ من تداعيات العقوبات. عقوبات أضرّت كثيراً بمصالح الإيرانيين، بحيث يشعر أيّ مواطن، وخصوصاً المرضى وذوي الحاجات الخاصة، بمدى قساوتها ووحشيتها، لكن لم يقف الإيرانيون حيالها موقف المتفرّج الهادئ، واستخدموا جميع الطرق الممكنة لتدویرها. وبفضل تلك الطرق، تمكّنت إيران من مواصلة تصدير نفطها. تدوير العقوبات تم بفضل الخبرة الواسعة التي حصلت عليها وزارة النفط خلال عهد الرئيس الأميركي السابق، باراك أوباما، مع فارق أساسي يكمن في أن العقوبات المفروضة على إيران قبل 2013 كانت بموجب قرارات أممية التزمت بها جميع دول العالم، بما فيها روسيا والصين. لكن العقوبات «الترامبية» لا تستند إلى أي شرعية دولية، بل على العكس هي أثارت سخط الأوروبيين والصين والهند وتركيا، وهذه الأطراف الثلاثة من زبائن النفط الإيراني.
وعلى الرغم من أن الولايات المتحدة أعفت 8 دول من حظر شراء النفط الإيراني قبل ستة أشهر، فإننا لاحظنا أن ثلاثاً من تلك الثماني أوقفت نهائياً شراءه تجنّباً للمخاطر، وهي إيطاليا واليونان وتايوان. وكذلك، أوقفته كلّ من اليابان وكوريا الجنوبية لشهور حتى يتبيّن الخيط الأبيض من الأسود، لتستأنف استيراده في الأشهر الأخيرة. لكن طهران استمرّت في إنتاج النفط، ولم يتبخّر نفطها في الهواء. فمَن استورده؟ ثمة زبائن جدد، بالإضافة إلى زبائن إيران التقليديين من أمثال الهند والصين وتركيا، والذين يتم تسليمهم الشحنات في مياه الخليج الفارسي والمحيط الهندي. كما أن شحنات نفط إيرانية تتجه إلى موانئ الصين الشمالية ليتم تصديرها مجدداً إلى سنغافورة وماليزيا وهونغ كونغ، وذلك بعد عملية التضليل التي تجعل من المستحيل ملاحقة تلك الشحنات. ومن بين الطرق التي تستخدمها إيران لتصدير نفطها، إطفاء رادارات الناقلات النفطية.
وبغضّ النظر عن الطرق المنوّعة التي تسهّل على إيران عملية تصدير النفط إلى 15 دولة جارة لها برّاً وبحراً، فإن الحسومات التي تعرضها إيران على زبائنها كفيلة بحدّ ذاتها بإحباط المخطط الأميركي الخبيث وإفشاله. فعرض الحسومات يتيح لإيران رفع حجم صادراتها النفطية فوق الحصة التي حدّدتها لها منظمة الدول المصدرة للنفط. كما أن العلاقات الاستراتيجية التي تربط بين إيران وكلّ من الصين والهند وحتى تركيا تجعل من المستحيل تصفير صادرات النفط الإيراني. هناك مصافٍ هندية تم تصميمها وتركيبها بشكل لا يتلاءم إلا مع هذا النفط، وقد أعلنت إداراتها أن الخام الصخري الأميركي لا تتطابق مواصفاته معها. أما الصين، فإن طموحها السياسي يدفعها إلى استعراض قوتها أمام الولايات المتحدة، وبطبيعة الحال لن توقف استيرادها. ويبدو أن المملكة السعودية والإمارات لن تتمكّنا من تعويض السوق. فالسعودية خفضت حجم إنتاجها من 11 مليون برميل قبل أشهر إلى 9 ملايين، ما يدل على صعوبة الاحتفاظ بذلك المستوى من الإنتاج. أما الإمارات فليست لديها القدرة على رفع مستوى إنتاجها بشكل ملحوظ، إنما تبقى روسيا التي زادت حجم إنتاجها خلال الأشهر الماضية بسهولة.
المخطط الأميركي الأخير لفرض العقوبات النفطية الكاملة على إيران يشكّل حلقة جديدة من مسلسل الهزائم المتتالية التي يفرضها ترامب على الولايات المتحدة. فهل هناك أحد يتابع قرارات مؤتمر وارسو المثير للسخرية؟ أين ذهب مشروع «الناتو العربي»؟ أين وصلت خطّة ترامب؟ هل أجبرت تلك العقوبات إيران على التفاوض مع الولايات المتحدة أو دفعتها إلى التشدد ومواصلة تقدمها في المنطقة؟ ثم ماذا ترتب على تصنيف الحرس الثوري منظمة إرهابية؟ هل استطاع الجيش الأميركي أن يعامل قوات الحرس الثوري معاملته لأي جماعة إرهابية؟ هل تجرؤ القوات الأميركية على إطلاق رصاصة باتجاه قوات الحرس الثوري؟ عند إعلانه انسحاب بلاده من الاتفاق النووي، أكد الرئيس ترامب أن الإيرانيين بعد شهرين أو ثلاثة سيعودون حتماً إلى طاولة التفاوض معنا، لأنهم لا يقدرون على الصمود أمام عقوباتنا. والآن يعود وزير الخارجية، مايك بومبيو، ويكرر الكلام نفسه، ويبقي المهلة مفتوحة، ويقول إن عقوباتنا على صادرات النفط الإيراني ستستمر حتى تتخلى طهران عن مشاريعها في المنطقة وتوقف برنامجها الصاروخي.
ونظراً إلى فشل الولايات المتحدة في إرغام إيران على التفاوض، ألا يحق لوزير النفط الإيراني، بيجن زنغنه، أن يقول: إننا لن نسمح بتحقيق حلم ترامب في تصفير صادرات إيران للخام؟! يمكننا أن نصدق الوزير الذي أثبت جدارته ومصداقيته رغم أنه بخيل جداً في إعطاء التفاصيل في ما يتعلق بآليات تدوير العقوبات النفطية (فإن الحرب خدعة)، ولكننا نستعيض بالإحصائيات التي تعطينا مؤسسة «أس آند بي غلوبال». يقول آخرها إن إيران صدّرت 1.5 مليون برميل يومياً في شهر نيسان/ أبريل الماضي. ولا شك في أن المرشد علي خامنئي يثق بقدرة الحكومة على تجاوز العقبات التي أحدثتها العقوبات، إذ قال أمس: «إننا نبيع نفطنا بمقدار حاجتنا، وإن المسؤولين الواعين سيتجاوزون الطريق المسدود». كما أكد الرئيس حسن روحاني أن تصفير صادرات النفط الإيراني «لن يتحقق»، مضيفاً أن واشنطن «هُزمت في جميع مؤامراتها ضد إيران وستهزم هذه المرة».