لندن | نيكولاس مادورو، خليفة تشافيز، والمناضل الثوري الآتي من قلب الطبقة الفنزويلية العاملة، كان صريحاً قبل أسبوعين وهو يلقي خطاب قَسم تولّيه رئاسة الجمهورية لفترة ثانية (تمتدّ حتى عام 2025)، فحدّد بوضوح أعداء فنزويلا بالتوأمين التاريخيين: الأوليغاريشية والإمبريالية، لكنه بقي وفياً لذكرى القائد الراحل تشافيز، وامتنع عن تقديم نقد مستحق للتراث المرّ لتجربة الاشتراكية التشافيزية الثورية، والذي يحصده مادورو اليوم ومعه قطاعات واسعة من الفنزويليين.لقد غيّرت الثورة أشياء كثيرة في فنزويلا، وحسّنت أقدار ملايين من الفقراء والمهمشين الذين طالما عاشوا قبل تشافيز في بؤس وجهل، رغم مدخول البلاد الهائل من النفط. لكن، ورغم مرور عقدين على تولّي البوليفاريين السلطة في البلاد، فإن النخبة الأوليغاريشية التي نمت وتجذرت برعاية الأميركي عبر عقود من توفيرها النفط للصناعة الأميركية بأرخص من سعر الماء، بقيت تقريباً كما هي: تسيطر على معظم مفاصل الاقتصاد، بما فيها إدارة صناعة النفط، وتمتلك مفاتيح العلاقات مع الشركات المتعددة الجنسيات المورِّدة للغذاء والدواء والمواد الاستهلاكية، كما منافذ الصحافة والإعلام، مع هيمنة شبه تامة على الإنتاج الثقافي في البلاد، وتشبيك عميق مع المافيات التي تعشّش في ظلال الظروف الصعبة التي يعيشها المواطنون العاديون.
هذه النخبة، التي يسمّيها الفنزويليون تقليدياً «البليوكونيز»، تعيد صياغة سردية الثورة البوليفارية وأزمتها لمصلحتها، ملقيةً دائماً بكل أوجاع الأمة على مادورو وجماعته، من دون أن تشير بالطبع إلى التاريخ المديد من الارتباط الذيلي الطابع مع الرأسمالية الأميركية، ودورها كطبقة في تكريس الهيكلية البنيوية لاقتصاد البلاد على أساس ذلك الارتباط المنحرف، ولا حتى الحصار الهائل الأبعاد الذي تفَرضه الولايات المتحدة ــ وأتباعها في الغرب وفي أميركا اللاتينية معاً ــ على بلد صغير معزول لا يزيد عدد سكانه على عدد سكان سوريا مثلاً. هذه الطبقة متداخلة عضوياً مع منظومة الهيمنة العالمية، ولا تتوانى عن خنق أي مجتمع ــ فنزويلا أو غيرها ــ إن هو حاول الاستقلال عنها، عبر الحصار الاقتصادي والعقوبات والتهديد باستعمال القوة لدعم الأوليغاريشيات المحلية وإطلاق أيدي عصابات مقاتلي «الحرية» («كونترا» أو «دواعش» لا فرق)، لتصل في النهاية إلى حدّ الغزو المباشر.
تشافيز، وعلى رغم شجاعته الفائقة وصدق نياته الأكيد، لم يكن مفكراً سياسياً من طينة فلاديمير لينين، أو خبيراً اقتصادياً من طينة سمير أمين، وانحيازُه لليسار كان نتيجة لبؤس مواطنيه الذي عاينه عن قرب إبان خدمته العسكرية، لا نتيجة وعي نظري طبقي عميق. ولذا، فإن اشتراكيته المزعومة لم تكن أكثر من مشروع قومي شامل، مغلّف بشعارات اشتراكية. من هذا المنطلق، هو تجنّب استعداء «البليوكونيز»، مراهناً على مشاعرهم الوطنية للانخراط في مشروعه القومي. لكن الأوليغاريشية الفنزويلية، كعادة البرجوازيات عبر التاريخ، اختارت الانحياز لمصالحها الطبقية على حساب شركاء الوطن، وتضامنت مع المهيمن الأميركي في محاولات إسقاط تشافيز، وهم كادوا ينجحون بالفعل في انقلاب عسكري لولا أن اندفع الفنزويليون الفقراء إلى الشوارع.
غاب تشافيز والأمور على حالها، بل وازدادت صعوبة بتشديد الأميركيين حصارهم للبلاد، ومعاقبتهم القطاع النفطي بالتضييق على الصادرات، ومنع قطع الغيار أو الاستثمارات الجديدة، وأيضاً بالتوافق مع التابع السعودي على إبقاء أسعار النفط متدنية في السوق العالمي. ولذا، عندما تولى مادورو السلطة خلفاً للزعيم البوليفاري الراحل، كانت موارد نفط الجمهورية تتراجع بشكل مخيف (أقلّ من 20% حالياً مقارنة بمستواها أيام تشافيز)، وهو مما صعب مهمة الإنفاق على المشاريع العامة التي يستفيد منها الفقراء أساساً، بل وأصبح توفير المواد الأساسية المستوردة بمعظمها أمراً شديد الصعوبة بسبب العراقيل الأميركية والتضخم وجفاف الموارد.
لن يتخلّى فقراء فنزويلا عن مادورو الآن من دون قتال، لأنهم يعلمون كيف تحدث الأمور على الأرض هناك، لكن الأوليغاريشية أيضاً لن تستسلم بسهولة بعدما أصبحت الثورة البوليفارية في أصعب أوضاعها الاقتصادية، وفي ظلّ توجّه إدارة ترامب المفتقدة للصبر إلى قلب الأمور بسرعة هناك، بينما ليس لفنزويلا حلفاء مستعدون للدخول في صراع مباشر مع واشنطن من أجلها. المخرج الوحيد أمام مادورو من الهزيمة هو في تجاوز المشروع القومي التشافيزي إلى اشتراكية تامة بالتحالف مع الشيوعيين، و«التوبا ــ أمورس» الفنزويليين، على نحو ينهي الحالة «البليوكونيزية» نهائياً، ويقطع ارتباطها البنيوي بالمشروع الأميركي، ويعيد بناء الاقتصاد الفنزويلي والدولة الفنزويلية على أسس جديدة تماماً. ليست هذه المهمة الثورية بالسهلة بعدما ضاع كثير من الوقت أيّام تشافيز، لكن مادورو سيجد أن البوليفارية بصورتها الحالية لن تجديه نفعاً عندما يبدأ الغزو الأميركي المنتظر، ويجد أن رصاص «البليوكونيز» يقتل رجاله الشجعان من الظهر.