شهدت فرنسا، أمس (السبت)، يوماً احتجاجيّاً جديداً على زيادة رسوم المحروقات والسياسات الاقتصادية للرئيس إيمانويل ماكرون نفّذته حركة «السترات الصفراء»، التي بدا أنّ قدرتها على الحشد تراجعت على المستوى الوطني مقارنةً بالأسبوع الماضي. لكنّ هذا التراجع لم يحُل دون حصول صدامات في باريس بين المحتجّين والشرطة، التي استخدمت لتفريقهم الغاز المسيل للدموع وخراطيم المياه. الصادامات انتهت باعتقال كثيرين، بلغ عددهم 130 شخصاً في عموم البلاد، بالإضافة إلى إصابة 24 شخصاً في العاصمة، بحسب بيانات وزارة الداخلية.
ما هي حركة «السترات الصفراء»؟
بدأت حركة «السترات الصفراء» الشعبية، نهاية شهر تشرين الأول/أكتوبر الماضي، عندما تحدثت الحكومة الفرنسية، بقيادة إدوارد فيليب، عن رغبتها في رفع أسعار الوقود مرة أخرى، بعدما شهدت خلال العام الحالي ارتفاعاً بنسبة 23% على الديزل و14% على البنزين. وأطلق محتجّو «السترات الصفراء» هذا الاسم على أنفسهم لارتدائهم السترات الفوسفورية المضيئة التي يتوجّب على كل سائق سيارة ارتداءها إذا ما تعرّض لحادث. يوم السبت الماضي، دعت الحركة العمال والسائقين إلى تظاهرات في فرنسا، يشملها إغلاق الطرق والمطارات والمحطّات وعدد من المواقع. وبعدما بدأ تحرّكهم للاحتجاج على رفع أسعار المحروقات، سرعان ما توسّع ليشمل مطالب متعلّقة بالضرائب المرتفعة وتردّي القدرة الشرائية، وقد حصل هؤلاء المحتجّون على دعم شعبي واسع.

ما هي المطالب؟
يعارض المحتجون عموماً الضرائب التي فرضها ماكرون، العام الماضي، على الديزل والبنزين لتشجيع الناس على الانتقال إلى وسائل نقل أكثر ملاءمة للبيئة، وفق رؤيته. وعلاوة على الضريبة، عرضت الحكومة حوافز لشراء سيارات كهربائية أو صديقة للبيئة. ولمواجهة مقررات الحكومة الفرنسية التي تصرّ على موقفها، أطلق المحتجون أمس الفصل الثاني من تعبئتهم التي امتدت إلى أرجاء البلاد.

ماذا حصل في تجمّع «السبت الثاني»؟
بحلول منتصف نهار أمس، تجمع نحو خمسة آلاف محتج في شارع الشانزليزيه في باريس، حيث وقعت اشتباكات مع الشرطة التي تم إرسالها لمنعهم من الوصول إلى قصر الإليزيه القريب. وردّد بعض المحتجين النشيد الوطني ولوحوا بعلم البلاد، بينما رفع آخرون لافتات كُتب عليها «ماكرون، استقالة» و«ماكرون، لص». وبحسب الإحصائيات الرسمية، فإن تجمعات «السبت الثاني» تجمع خلالها نحو 106 آلاف شخص في عموم فرنسا (بينهم ثمانية آلاف في باريس) مقارنة بـ283 ألفاً الأسبوع الماضي، بحسب ما أعلنت وزارة الداخلية.
خلال الاشتباكات بين المحتجيّن وقوات الأمن، رشق المتظاهرون عناصر الشرطة بمقذوفات مختلفة وتحصّنوا خلف متاريس بنوها بما تيسّر لهم، في حين ردّ عليهم عناصر الدرك وشرطة مكافحة الشغب بقنابل الغاز المسيل للدموع وخراطيم المياه. كذلك، تدخّل عناصر الإطفاء لإخماد حرائق أشعلها المتظاهرون في المتاريس التي أقاموها، والتي تسبّبت بأعمدة كثيفة من الدخان الأسود اختلطت بالدخان الناجم عن القنابل المسيلة للدموع.
وفي حين كانت العاصمة تعيش على وقع هذه الصدامات، كانت أنحاء أخرى من البلاد تشهد تحرّكات احتجاجية سلمية من تظاهرات، أو إبطاء حركة السير على الطرق العامة، أو على العكس من ذلك تسريعها، من خلال رفع الحواجز الموضوعة على الطرق السريعة التي يتم عبورها مقابل بدل مالي.

مم تتخوّف الحكومة الفرنسية؟
تمثل الاضطرابات معضلة لماكرون الذي يصور نفسه «بطلاً» في مواجهة التغير المناخي، لكنه تعرض للسخرية لعدم تواصله مع الناس العاديين في وقت يقاوم فيه تراجع شعبيته.
مساء أمس، أعرب ماكرون عن شعوره بـ«العار» إزاء الصدامات، مندّداً بمن «اعتدوا» على قوات الأمن و«أساؤوا معاملة مواطنين آخرين». وقال في تغريدة عبر «تويتر»: «أشكر قوات الأمن على شجاعتهم واحترافهم، والعار على أولئك الذين اعتدوا عليهم، والعار على أولئك الذين أساؤوا للمواطنين الآخرين والصحافيين، والعار على أولئك الذين حاولوا تخويف المسؤولين المنتخبين، لا مجال لهذا العنف في الجمهورية».
من جانبٍ آخر، تؤكّد حركة «السترات الصفراء» أنّ تحرّكاتها تجري خارج إطار الأحزاب والنقابات، لكنّ حوادث أمس أثارت ردود فعل سياسية، خصوصاً أن التحرك الأول أسفر عن سقوط قتيلين وتخلله أعمال شغب. مساء أمس، هاجم وزير الداخلية الفرنسية كريستوف كاستانير، بشكلٍ مباشر، زعيمة اليمين المتطرّف مارين لوبن، معتبراً أنّ «مشاغبين» لبّوا دعوتها إلى التظاهر في الشانزيليزيه. وقال إنّ بين المتظاهرين أعضاء من «اليمين المتطرف» يريدون «مهاجمة المؤسّسات».
لوبن ردّت، بدورها، عبر التلفزيون قائلة: «لم أدعُ إطلاقاً إلى أي عنف». أما زعيم الكتلة البرلمانية لحزب «فرنسا المتمردة» اليساري المتطرف، جان لوك ميلانشون، اعتبر في تغريدة عبر موقع «تويتر» أنّ «كاستانير يريد أن تكون تظاهرة السترات الصفراء من اليمين المتطرّف (...). الحقيقة هي أنها تظاهرة كبيرة للشعب».

ماذا بعد؟
على الرغم من تراجع التعبئة في احتجاجات أمس، إلا أن هذا التحرك يمكنه حالياً أن يعتمد على دعم واسع من الفرنسيين. فقد كشف استطلاع للرأي أجراه معهد «بي في آ»، أن 72 في المئة من الفرنسيين يؤيدون مطالب «السترات الصفراء» الغاضبين من زيادة رسم للبيئة، أدى إلى ارتفاع أسعار المحروقات.
لكن ماكرون لم يُبدِ، حتى الآن، أيّ رغبة في تخفيف وتيرة إصلاحاته من أجل «تغيير» فرنسا. في مقابل ذلك، أعلن قصر الإليزيه أنّ الرئيس سيطلق يوم الثلاثاء المقبل «توجيهات للانتقال البيئي»، مؤكّدة أنّه «تلقّى رسالة المواطنين».