عندما بدأ النظام الشاهنشاهي، بدعم أميركي ــ فرنسي ــ ألماني، ببناء مشروع نووي طموح، كان المحرّم اليوم مباحاً إلى أقصى الحدود. وعندما سقط الشاه الذي فرّ في مثل هذه الأيام من إيران، قبل أكثر من ثلاثة عقود ونيّف، سقط معه الحلم النووي الإيراني. إيران دخلت، بعدها، مرحلة الحرب المفروضة مع العراق، دُمرت البنى التحتية وقُصفت المنشآت النووية في بوشهر ــ يقال إنها قُصفت بإحداثيات أميركية وطائرات فرنسية ــ فتوقف المشروع إلى أن وضعت الحرب أوزارها، وتوفي مؤسس الثورة الإمام الخميني. تسلّم زمام ولاية الفقيه آية الله علي خامنئي، بالتوازي مع انتخاب الشيخ أكبر هاشمي رفسنجاني رئيساً للبلاد. في ذلك الوقت، سأل صحافي أميركي رفسنجاني، في مقابلة تلفزيونية: "لماذا تريدون طاقة نووية ولديكم هذا الاحتياط الهائل من النفط؟"، فردّ: "لماذا سمحتم للشاه ببناء المفاعلات بوجود النفط، وتحرّم على إيران الثورة؟". سكت الصحافي، ليستدرك رفسنجاني قائلاً: "كيف تطلب منا أن لا نعادي إدارتكم؟".
واصلت إيران مشروعها النووي، وحاولت واشنطن الكثير لعرقلته سرياً، لتستعين بالمعارضة الإيرانية في الخارج عام 2003، التي أعلنت برنامجاً نووياً شكّل الحجة الأساسية لشن حرب، استعملت فيها كافة أنواع الأسلحة، إلا النارية. دخلت الترويكا الأوروبية على الخط، وفاوضت حكومة الرئيس الأسبق محمد خاتمي، الذي كلّف أمين المجلس الأعلى للأمن القومي حسن روحاني إدراة الملف. أقفلت إيران كافة أنشطتها على وقع الحرب في أفغانستان والعراق، ولم يُسمح لها بتشغيل جهاز طرد مركزي واحد، ثم حصل اتفاق سعد أباد، وتلاه اتفاق باريس وبروكسل.
انتهت ولاية الرئيس محمد خاتمي. هنا كان لآية الله خامنئي كلمة الفصل، طلب من خاتمي إلغاء الاتفاقية بأكملها قبل انتهاء ولايته، فردّ خاتمي بالقول إن الانتخابات أفرزت رئيساً جديداً، هو محمود أحمدي نجاد، ويمكنه إلغاء الاتفاقيات، لكن المرشد الأعلى رفض، وأخبر الحكومة بضرورة فضّ الأختام واستئناف النشاط النووي، لأن حكومة خاتمي هي التي وقعت الاتفاق، وهي التي يجب أن تلغيه. قبل يومين من تسلم نجاد مقاليد الحكم، أصدرت الحكومة قراراً بفك الأختام كافة واستئناف النشاط النووي.
إيران كانت تسعى منذ اليوم الأول إلى سحب ملفها من مجلس الأمن وإعادته إلى أدراج الوكالة الذرية

القرار الإيراني برلمانياً وسياسياً، وعلى مستوى المرشد الأعلى، كان بعدم وضع عوائق أمام التطور النووي، لكن إعلان رفض القنبلة الذرية وحرمة استخدامها وإنتاجها دينياً، كلام لم يُقنع الغرب. دخلت السداسية الدولية مكان الترويكا الأوروبية، وبدأت مراحل التفاوض على وقع العقوبات والرد الإيراني عليها، فزادت أعداد أجهزة الطرد المركزي من 300 إلى الآلاف، وارتفع حجم اليورانيوم المخصب، كذلك فُعِّل العمل بمفاعل آراك للمياه الثقيلة. ردّ الغرب بمزيد من العقوبات، وهُدّدت طهران بالضربات الجوية، فكشفت عن منشأة "فردو" في محافظة قم، محصنة في باطن الأرض. طالبت إيران تزويدها باليورانيوم المخصّب بنسبة عشرين في المئة للاستخدام الطبي، لكن الغرب رفض، فقامت الجمهورية الإسلامية بإنتاجه. حينها كان الرد عبر اغتيال العلماء الإيرانيين، الذين أسهموا في تحقيق هذا الإنجاز.
دخلت روسيا على خط الأزمة، وقدمت اقتراح العمل "خطوة بخطوة"، فكان بداية لكسر حاجز التصعيد في المفاوضات والدخول في مرحلة "خذ وأعطِ"، والقبول باقتراح وقف إيران لتخصيب اليوارنيوم بنسبة عشرين في المئة مقابل رفع بعض العقوبات، وهي المرحلة التي أنهاها المفاوض سعيد جليلي، والتي شكلت بداية كرة الثلج التي استكملها العهد الرئاسي الجديد بتسليم محمد جواد ظريف ملف التفاوض، وما تلاه من مفاوضات وصلت إلى خواتيمها، باعتراف دولي بإيران نووية.
يعني التفاوض أن تقدّم شيئاً وتخسر شيئاً آخر، وعلى هذا الأساس كانت صيغة الرابح الرابح. فقد اعتبر كل طرف أن ما قدمه للطرف الآخر يمكن تعويضه في مكان آخر، وبالتالي لعب الصبر دوراً في عملية كشف النيات، التي من الصعب أن تظهر حتى بعد تنفيذ الاتفاق، خصوصاً أن كل طرف يعتقد أنه أثبت وجهة نظره ويضحك في سرّه، ليبقى المهم أن هذا الاتفاق قد أُنجز.
الجمهورية الإسلامية كانت تسعى، منذ اليوم الأول، إلى سحب ملفها من مجلس الأمن وإعادته إلى أدراج الوكالة الدولية للطاقة الذرية، وهي أثبتت أن ملفها النووي كان مسيَّساً بامتياز. واشنطن كانت تعرف أن طهران تعيد تطوير برنامجها النووي، قبل عام 1998، وسعت إلى عرقلته، ولكنها فشلت، فبقيت صامتة لأن الجمهورية الإسلامية ــ التي صُنّفت ضمن محور الشر من قبل الرئيس الأميركي السابق جورج بوش ــ ساعدتها في حرب أفغانستان والعراق. وعندما شعرت الولايات المتحدة بأنّ إيران أصبحت "مؤذية" لوجودها في المنطقة، صعّدت ضدها لإخضاعها، وبقي الحال على ما هو عليه، إلى أن شعرت واشنطن بأنها بحاجة إلى طهران في المنطقة.
استغل الإيراني هذه الحاجة الأميركية، وسارع خلال السنوات الماضية إلى توسيع نشاطه النووي إلى حدّ جعل منه أمراً واقعاً. ورغم أن واشنطن حاولت ضرب الداخل، بدعم المعارضة في أحداث عام 2009، إلا أن الأزمة بقيت عابرة، مع كل ما خلفته من خسائر وتجارب. فضلاً عن ذلك، تبيّن أن الحصار الاقتصادي على إيران، مع أنه ضرب في الصميم، إلا أنه لم يوقف الاندفاعة الإيرانية في ضرب السياسات الأميركية في العراق وسوريا وأفغانستان، بالدرجة الأولى. كذلك اتضح لواشنطن، عبر مراكز الدراسات والتجربة، أن البعد العقائدي والإيديولوجي للشعب الإيراني، إضافة إلى التعصب العرقي، لن يؤدي إلى إركاع إيران. ولهذا الأمر شواهد تاريخية، أبرزها "ثورة التنباك"، عندما قدم الشاه القاجاري ناصر الدين شاه امتيازات الدخان إلى شركة بريطانية، فصدرت فتوى دينية من المرجع الشيرازي حرّم استخدامه، ما دفع زوجة الشاه ناصر الدين إلى عدم تقديم "النرجيلة" لزوجها، وهو ما أدى إلى إلغاء الاتفاقية.
يمكن القول إن الحصار الاقتصادي حقّق نجاحات بضرب العصب التجاري الإيراني، لكنه دفع إيران إلى معرفة مكامن ضعفها التي استهدفتها العقوبات، وعملت على ترميمها والالتفاف عليها.
رفع العقوبات المالية والاقتصادية، في بلد حُرم لسنوات الحراك الاقتصادي العالمي، سيعني سوقاً جاذبة للاستثمارات الأجنبية، وسيعيد إحياء التبادل التجاري، مع العلم بأن إيران تدرس بتمهل كافة العروض المقدمة، منعاً لأن يصبح السوق استهلاكياً أو مرتبطاً بالخارج، فلا يتحمل أي خضة اقتصادية. لذا، كان العمل على انتقاء الاستثمارات الآمنة، وبالتالي فرض شروط على بعض الشركات بأن تنتج في إيران، وأن تصدّر منتجاتها إلى الخارج منعاً لإغراق السوق الإيرانية بها. لكن الكثير من الخبراء الاقتصاديين لا يرون انفراجة اقتصادية في المدى المنظور، فيما الحديث عن صدمة اقتصادية إيجابية، بوصول 30 مليار دولار من الأموال المجمّدة، يبقى موضوعاً له تأثير نفسي على السوق وأسعار الدولار. فالاقتصاد الإيراني بحاجة إلى أكثر من عام لتجاوز مرحلة الركود، التي وقع فيها في ظل انخفاض أسعار النفط عالمياً.
قد يكون البعد السياسي العامل الأكثر تفاعلاً مع الاتفاق. فإيران التي وقفت في وجه الغرب لأكثر من عقد من الزمن، تهديداً ووعيداً وحروباً بالوكالة وحصاراً وعقوبات، دفعت الآخرين إلى دعوتها للمشاركة في حل أزمات تُتهم هي بدعم بعض أطرافها. بالمحصلة، طهران التي كانت جزءاً من الأزمة تحولت إلى شريك في الحل. وهنا لا يمكن الحديث عن المال السياسي، الذي تقدمه إيران إلى حلفائها، بل عن الجهد السياسي، المدعوم بعناصر بشرية على الأرض، استطاعت قلب الموازين. القوة هي التي تجرّ السيطرة، وحالياً المحور الذي تقوده إيران بمشاركة قوى إقليمية ممانعة، سيكون له التأثير الأكبر.
إيران الفقيرة مادياً، في الوقت الراهن، استطاعت أن تكسر مليارات البترودولار على الأرض، وما يهم الجمهورية الإسلامية هو الحفاظ على المكتسبات، لأن التجربة أثبتت لها، خلال سنوات الحصار، أن المال لا يمكن أن يصنع انتصاراً، بل العقل والصبر والإدارة الصحيحة، بأقل إمكانية ممكنة، تصنع القوة. وهذا ما يترجَم في كافة المحاور التي تدعمها إيران، من أفغانستان والعراق إلى سوريا ولبنان وفلسطين، وصولاً إلى اليمن.
قد يسجل التاريخ للرئيسين الأميركي باراك أوباما والإيراني حسن روحاني أنهما توصلا إلى اتفاق تاريخي، لكن الجدل الحاصل كان على مسلّمات يعرف الجميع أنها محقة، ولكن يراد لها أن تكون ورقة ضغط لحل أزمات أخرى.
لن تشهد العلاقة بين طهران وواشنطن بزوغ فجر جديد، لأن المعركة الدائرة ليست معركة أجهزة طرد مركزي ولا يورانيوم ولا مياه ثقيلة ولا حتى قنبلة نووية. إنها حرب استقلالية ترى فيها أميركا كبرياء إيرانية يعاكسها في كافة الاتجاهات، ومن يعرف العقلية الإيرانية يمكنه أن يدرك أن لا اتفاقات إضافية، ومحادثات قريبة مع الأميركيين في ملفات المنطقة.
ستكون للاتفاق النووي ترجمات إقليمية، لكن العلاقة مع الولايات المتحدة لن ترقى إلى ما تصبو إليه واشنطن، فطهران تعلم أن ما قدمته أميركا من تنازلات على طاولة المفاوضات ستعود لأخذه، حتماً، في أماكن أخرى، وما نشهده اليوم، هو طيّ صفحة من نزاع، وفتح صفحة جديدة في كتاب الصراع المستمر، بين الشرق والغرب.