المواجهة الأميركية ــ الإيرانية في طور التحول إلى المعركة الرئيسية في الإقليم التي تعيد ترتيب أولويات لاعبيه الرئيسيين، محليين وإقليميين ودوليين، دولتيين وغير دولتيين، وترسم خريطة التحالفات الجديدة المرتبطة بهذه المعركة وبنتائجها. إدارة الرئيس دونالد ترامب تسرّب عبر بعض القنوات الإعلامية والدبلوماسية أنها باتت تمتلك خطة محكمة ضد طهران ستؤدي حسب الجناح «الأكثر اعتدالاً» في الإدارة إلى خضوعها في نهاية المطاف للشروط والإملاءات الأميركية، بينما يرى جناحها الأكثر تشدداً أنها ستسبب انهيار نظام الجمهورية الإسلامية لا أقل. وعلى الرغم من أن النواة الصلبة للمجموعة التي بلورت هذه الخطة هي من فلول إدارة بوش الابن، فإن مصدر إلهامها ليس أطروحات المحافظين الجدد حول تغيير النظُم المعادية عبر التدخّل العسكري المباشر والتورط في عمليات «بناء الأمم»، التي قادت إلى نتائج كارثية بالنسبة إلى الولايات المتحدة في العراق وأفغانستان، بل استراتيجية إدارة دونالد ريغان ضد الاتحاد السوفياتي التي تكللت بسقوطه. التسويق الناجح للخطة الحالية في أوساط النخبة الأميركية والرأي العام يتطلب ربطها بـ«قصة نجاح» لا بـ«قصة فشل». وبمعزل عن فرص نجاحها أو فشلها، إن اعتماد الإدارة الأميركية للخطة المذكورة سيفضي حكماً إلى تأجيج الصراعات الدائرة في المنطقة تترتب عنها تداعيات خطرة بالنسبة إلى جميع دولها، بما فيها تلك المؤيدة لها.
سياسة «العقوبات القصوى» والاستنزاف
مصدر مطلع زار واشنطن أخيراً، وقابل بعض أعضاء الفريق المشرف على الملف الإيراني في إدارة ترامب، قال لـ«الأخبار» إن هذا الفريق بات يستوحي الخطوط العريضة لاستراتيجيته ضد إيران من تلك التي طبّقها الرئيس الأسبق رونالد ريغن ضد الاتحاد السوفياتي، كما لخصها الكاتب والصحافي بيتر شوايتزر، في مؤلفه الصادر عام 1994 «الانتصار: استراتيجية إدارة ريغن السرية التي سرّعت انهيار الاتحاد السوفياتي».
لقد بات هذا الكتاب «دليل عمل» بالنسبة إلى هؤلاء تماماً كما كان كتاب «دفاعاً عن الديمقراطية» لناتان شارنسكي، المنشق السوفياتي السابق الذي احتلّ مناصب وزارية عديدة في إسرائيل، بمثابة «الحمض النووي» لسياسات إدارة بوش الابن، كما أقرّ هذا الأخير حرفياً، والمرجع النظري لمشاريع «دمقرطة» الشرق الأوسط رغم سخفه وضحالة حججه. وبيتر شوايتزر صحافي متخصص بالتحقيقات، معروف بمواقفه اليمينية المتشددة، ووثيق الصلة بكبير موظفي البيت الأبيض السابق ستيفن بانون. يصف شوايتزر بإسهاب في «الانتصار» السياسات والإجراءت العملية التي اتخذتها إدارة ريغن ضد السوفيات والتي تضمنت حرباً اقتصادية شاملة ودعماً للمنشقين ولحركات المعارضة داخل الاتحاد السوفياتي ودول أوروبا الشرقية ورعاية لحرب استنزاف حقيقية في أفغانستان. وقد كشف مقال نشر على موقع «بازفيد نيوز» في 25 أيلول الماضي أن مارك دوبوفيتز، مدير «معهد الدفاع عن الديمقراطية»، هو من أعطى الكتاب لمايك بومبيو، عندما عيّن الأخير مديراً للمخابرات المركزية الأميركية، أي قبل أن يعاد تعيينه وزيراً للخارجية بدلاً من ريكس تيلرسون. وللعلم، فإن «معهد الدفاع عن الديمقراطية»، كما اعترفت موظفة في وزارة الشؤون الاستراتيجية الإسرائيلية في فيلم وثائقي أعدته قناة «الجزيرة» عن اللوبي الإسرائيلي في الولايات المتحدة، هو مجرد أداة بيد هذه الوزارة، وهي تشرف على أنشطته مباشرة. أي إن موظفاً إسرائيلياً هو من سلّم الكتاب لمدير المخابرات المركزية الذي قرأه ووزعه على فريقه في الوكالة، ومن ثم على فريقه في وزارة الخارجية ليصبح بعد ذلك مرجعاً ودليل عمل.
لا يكترث الفريق بنتائج السياسة التصعيدية حيال إيران


ووفقاً للمصدر المطلع، يعتقد القيّمون على ملف إيران أن خطيئة إدارة بوش الابن، أنه لم يذهب في ضغوطه الاقتصادية والسياسية على إيران إلى الحد الأقصى الكفيل برأيهم بدفعها إلى الإذعان للشروط الأميركية بنظر بعضهم أو حتى بتسهيل انهيار نظامها بنظر بعضهم الآخر. أحد الخبراء المقربين من إدارة ترامب، وهو من المحافظين الجدد، فرديريك كابلان، حدّد في موقع دورية «كومنتري» مجموعة الأهداف التي ينبغي لـ «استراتيجية انتصار» واقعية أن تعمل على تحقيقها، وهي:
«السعي لفصل إيران عن المجموعات الخارجية المؤيدة لها.
منع إيران من السيطرة على موارد خارج حدودها، في العراق وسوريا ولبنان، واستخدامها.
إلحاق هزائم بالحرس الثوري في ساحات مواجهة رئيسية كالعراق وسوريا لضرب صدقية سرديته الداخلية التي تعزّز موقعه في سياسات الأمن القومي الإيراني.
تشجيع التذمر والتمرد داخل إيران ضد النظام.
تسعير الخلافات وتأجيجها داخل النظام حول جدوى الاستمرار بالسياسات التوسعية.
مقاربة طويلة الأمد يجب أن تنطلق من ضرورة بناء إجماع بين حلفاء الولايات المتحدة لوضع مثل هذه الاستراتيجية موضع التنفيذ... هي ستجبر إيران على القتال بشراسة في العراق وسوريا للحفاظ على مواقعها وتصعد الضغوط على الاقتصاد الايراني بجميع السبل الممكنة. وبالنتيجة، ستضطر إيران إلى التراجع والتخلي عن مشروعها للهيمنة الإقليمية...».
ويلحظ المصدر أن اللافت في تحليلات أعضاء الفريق المشار إليه ومواقفهم، عدم اكتراثهم بنتائج سياستهم التصعيدية حيال إيران على أمن الإقليم واستقراره. فبعد غزو العراق ونتائجه، سادت في الولايات المتحدة وجهة نظر تحذر من سلبيات تدمير أو إضعاف الدول فيه على المصالح الأميركية نفسها، لأنها تفسح المجال أمام صعود الجماعات المتطرفة، كـ«داعش»، أو أمام توسع نفوذ دول إقليمية مستقلة ومعادية، كإيران، أو تسعى لتوسيع هامش استقلاليتها، كتركيا. وكان دونالد ترامب نفسه، قبل وصوله إلى السلطة وبعده، قد انتقد بشدة هذه السياسات ونتائجها وأعلن رفض إدارته لها. الجديد اليوم هو الاستعداد للمضي بخيارات ستقود بالضرورة إلى انفجار صراعات ضارية في أكثر من ساحة في المنطقة يصعب استشراف مآلاتها والخراب الناجم عنها. عادة ما تدفع الغطرسة والخفة إلى مثل هذه الخيارات. المحسوم أن مصير حلفاء الولايات المتحدة ومصالحها، يقع أيضاً ضمن ما يصعب استشرافه. فالحماسة لاستراتيجيات صيغت في زمن آخر لن يخفف من الأثمان الباهظة التي سيكون عليها دفعها مع حلفائها عند وضعها موضع التنفيذ.