ليس من السهل الإحاطة بألفية من العلاقات المعقدة بين الكنيسة والسلطة السياسية في روسيا، ولو من زاوية السرد التعدادي التاريخي. لكن استعراضاً سريعاً لأبرز محطات هذه العلاقة قد يكون مفيداً في فهم ديناميكيتها وأهميتها، إضافة إلى نوازع الطرفين.يعود اعتناق روسيا الكييفية (نسبةً إلى كييف الموصوفة تاريخياً بأمّ المدن الروسية)، للمسيحية الأرثوذكسية الى نهاية القرن العاشر، بعد الاتصال العسكري ثم الثقافي والسياسي بالإمبراطورية البيزنطية، وذلك بعد قبول الأمير فلاديمير للعماد سنة 988، واستحداث كرسي أسقفي في كييف بعدها بثلاث سنوات (991)، تحت سلطة البطريركية المسكونية في القسطنطينية. بقيت بعدها الكنيسة الروسية كامتداد للكنيسة اليونانية في الإمبراطورية الشرقية، على علاقة عضوية بالقسطنطينية. علاقة لم يقطعها «النير المغولي» الطويل العهد. تنقل فيها المقرّ الميتروبوليتي من كييف إلى فلاديمير سنة 1283، ومنها إلى موسكو سنة 1325. بالتوازي، ابتعدت الكنيسة الروسية شيئاً فشيئاً عن سلطة القسطنطينية، فأعلنت استقلالها عنها 1448، قبيل سقوط القسطنطينية، إلى أن أصبحت بطريركية مستقلة ــ بدل ميتروبوليت ــ سنة 158.
أدّت الكنيسة الأرثوذكسية دوراً أساسياً في تكوين الهوية السياسية لروسيا ما قبل المسكوبية، ثم المسكوبية، والحفاظ عليها خاصة في فترات تفتت السلطة السياسية وضعفها، أكان خلال فترة «النير المغولي» أم «زمن الاضطرابات»، حيث ساعدت على سبيل المثال في وصول أوّل قياصرة عائلة رومانوف، ميشال، الذي لم يكن إلا ابن بطريرك موسكو، فيدور، أو فيلاريت باسمه الكنسي، والذي كان الحاكم الفعلي لروسيا بين 1618 و1633. عقب ذلك، عادت السلطة السياسية لتأكيد أولويتها على السلطة الدينية.
تقلبت بعدها العلاقة بين الكنيسة والقياصرة بحسب ظروف مختلفة، اقصادية، مالية، سياسية، لكنها بقيت على خط بياني واضح قوامه كنيسة قوية ومؤثرة على علاقة عضوية بالقيصرية، تؤدي دوراً اجتماعياً، اقتصاياً، سياسياً وأيديولوجياً، تحت إشراف السلطة السياسية.
سنة 1702 أعلن بطرس الأكبر التسامح الديني، وخاصة تجاه البروتستانت والكاثوليك، ثم ترك الكرسي البطيركي فارغاً بعد وفاة شاغله سنة 1703، حتى سنة 1721، عندما عيّن سينودساً من 12 شخصاً لإدارة الكنيسة، على رأسه شخصية مدنية. تغير الوضع مجدداً بعد وفاة بطرس الأكبر، وخاصة مع نهاية القرن الثامن عشر، حيث أصبحت الأرثوذكسية بالتوازي مع السلطة القيصرية المطلقة من أعمدة الفكرة والهوية القومية الروسية. وهكذا نشطت كاترين الثانية بتحويل حوالى مليون بولوني من الكثلكة إلى الأرثوذكسية بعد الاقتسام الأوّل لبولونيا في 1772. وحذا حذوها نقولا الأوّل بالنسبة إلى حوالى مليوني يوناني كاثوليكي بعدها بستة عقود ونيف. أما بروتستانت دول البلطيق، فتعرضوا في أحيان كثيرة لاضطهاد حقيقي.
في أواخر القرن التاسع عشر، كانت الكنيسة الروسية في الذروة، داخل إمبراطورية مترامية تعد حوالى 110 ملايين شخص، مع عدد ضخم من الكهنة والمطارنة والرهبان والأديرة. تغيّر الوضع بصورة كارثية مع اندلاع الحرب العالمية الأولى وتغيّر النظام السياسي الذي انتقل من الأوتوقراطية القيصرية إلى حكم البلاشفة.
افتتحت الحرب العالمية الأولى وسلسلة التغيّرات الجذرية التي رافقتها وتلتها صفحة جديدة في تاريخ الكنيسة الروسية، وعلاقتها بالسلطة السياسية. فبعدما كانت شريكة القيصرية في تأطير الشعور القومي، وخاصة منذ نهاية القرن الثامن عشر، وعموداً من أعمدة الإمبراطورية، وجدت الكنيسة نفسها في مساحة حرية نسبية مع استقالة نقولا الثاني، وفي الفترة الانتقالية بين حكومة كيرنسكيي وسيطرة البلاشفة على السلطة واندلاع الحرب الأهلية. حرية نسبية دفعت السينودس إلى انتخاب بطريرك جديد على رأس الكنيسة في آب 1917، بعد انقطاع قرنين ونيف، وإلى اتخاذ جملة قرارات ساعدت الكنيسة على التعامل مع الوضع القانوني والاجتماعي ــ السياسي الجديد، الذي طبعه فقدان الشخصية القانونية، ومصادرة الأملاك والقتل الممنهج. كان بنتيجة هذا الواقع الجديد أنّه بحلول سنة 1939، عشية الحرب العالمية الثانية، تدنى عدد الأساقفة الروس إلى 4 فقط، وعدد الكنائس التي كانت لا تزال مفتوحة للعبادة إلى 100 فقط، من أصل حوالى 60 ألفاً سنة 1917، أي في خلال عقدين ونيف فقط!
عانت الكنيسة الروسية إذاً من اضطهاد ديني منظّم وجائر، تسبب في مقتل العدد الأكبر من رجال الإكليروس. وهو ما يدفع الكنيسة الروسية إلى اعتبار نفسها كنيسة شهداء بامتياز، قد تكون أعطت للمسيحية أكبر عدد من الشهداء منذ القرون الأولى، في موجة اضطهاد لم تسبقها ربما إلا عشرية الثورة الفرنسية في «الفانديه» خاصة، خلال الرعب الثوري، وحتى بعده، إلى وصول بونابرت الى السلطة.
ترافق القتل الممنهج مع حملة من التدمير المادي لعدد من المباني التاريخية، ككنيسة المسيح المخلص التي بنيت في موسكو بعد الانتصار على بونابرت في 1812، أو سيرغي بوساد، في إطار حملة لتغيير المشهد العمراني مادياً ورمزياً.
بعد انقضاء موجات التطهير الستالينية في العشرينيات والثلاثينيات خاصة، ومع الهجوم النازي على الاتحاد السوفياتي، حصل تبدل في الموقف السوفياتي من الكنيسة، على خلفية الحرب، وخاصة لناحية حاجة البلاشفة إلى تحفيز الشعور الوطني الروسي ضد الألمان خلال الحرب. ما دفع ستالين الى الاجتماع مع من بقي من مطارنة وتشجيعهم على انتخاب بطريرك جديد، بعدما قضى البطريرك تيخون قتلاً سنة 1925، وهو ما قاموا به بانتخاب خلف له، البطريرك سيرغي، سنة 1943.
خرجت الكنيسة الروسية من عقدي الدم اللذين سبقا الحرب العالمية الثانية مدماة ومهشمة بشكل شبه كامل، وكانت غير بعيدة عن الاضمحلال شبه النهائي. بعد الحرب العالمية الثانية، وموت ستالين في 1953، تحسنت الأوضاع نسبياً بالنسبة الى الأرثوذكس الروس، فتمكنت الكنيسة من استعادة شيء من التوازن والنشاط الخفيف من خلال الرعايا وبعض الأنشطة الكنسيّة حصراً. مرحلة دامت خلال الفترة البريجنيفية وحتى ما بعد وصول غورباتشيف الى السلطة سنة 1985 (راجع الكادر أدناه).
من اللافت كون المعطى الديني ــ أو الأرثوذكسية الروسية بشكل أدق ــ حاضراً دائماً في المشهد العام الروسي، وخاصة في العشرية الأخيرة، عملياً ورمزياً وإعلامياً. عملياً، من خلال النهضة الكبيرة التي عاشتها وتعيشها الكنيسة، ورمزياً من خلال التركيز على الممارسة الدينية للشخصيات العامة، بدءاً بالرئيس بوتين، وإعلامياً من خلال المساحة التي تفردها وسائل الإعلام للمسائل ذات الطابع الديني، والمساحة التي يحتلها رجال الدين، مطارنة وكهنة، في النقاش حول كل المواضيع التي تهم المجتمع الروسي. وليس صدفة أن يكون البطريرك الحالي، كيريل، قد استخدم سنة 2009 عبارة «عمودية السلطة الكنسية»، في إشارة إلى العبارة المستخدمة من قبل الرئيس الروسي الذي كان قد سبق أن تحدث عن «عمودية السلطة السياسية»، ما يعكس أيضاً التقارب حتى اللفظي بين الرجلين.
يعود هذا الاهتمام المتبادل والتعاون القريب جداً إلى عدد من العوامل، ليس أقلّها العوامل التاريخية والإرث التاريخي الذي يجعل من الكنيسة الروسية مؤسسة وطنية على درجة من الأهمية، ودورها طوال ألفية كاملة في تكوين هوية روسيا، من كييف إلى الدولة المعاصرة.
لكن عوامل أخرى مشتركة أيضاً لا تقلّ أهمية عن العامل التاريخي والإرث الروحي للكنيسة، تجعل منها شريكاً للسلطة على أكثر من مستوى، وإن اختلفت الأولويات والمصالح من منظار الطرفين. فمن جانب الدولة، تُشكِّل الكنيسة الروسية عامل وحدة وطنية للروس داخلياً، إذ عكس عدد من استطلاعات الرأي أنّ المواطنين الروس يثقون بمؤسستين، هما: الرئاسة والكنيسة، أكثر من ثقتهم بأي مؤسسة أخرى كالحكومة والشرطة وحتى الجيش. لذا تبدو الكنيسة الروسية مع شبكتها واحدة من أكثر المؤسسات الروسية الموثوقة. يُشار إلى أنّ حوالى 70% من الروس يعدّون أنفسهم أرثوذكساً. ويُشار إلى أنّ دور الكنيسة الروسية وتصدرها عملياً وبروتوكولياً، لا ينفيان كون روسيا بلداً علمانياً على المستوى الدستوري، ومتنوعاً على المستويين الإثني ــ الديني، واللغوي، أكثر من كثير من الديموقراطيات الغربية، وخاصة صاحبة نماذج الدمج ذات التقليد الدولتي الصارم.
إضافة إلى كونها عاملاً مهماً للعلاقة القوية مع الجوار القريب، أي المساحة الجيوسياسية التي كانت حتى الأمس القريب جزءاً من الاتحاد السوفياتي، من خلال الامتداد الجغرافي للولاية الكنسية لبطريركية موسكو. يدخل في هذه البلدان: بلاروسيا، مولدافيا ودول البلطيق الثلاثة، إضافة إلى دول وسط آسيا السوفياتية السابقة (كازاخستان، أوزبكستان، كرغيزستان، طاجاكستان وتركمانستان). أما في أوكرانيا، فالأمر أهم للكنيسة وللدولة الروسية على خلفية الحرب الأهلية الدائرة، وللنفوذ الروسي في القسم الشرقي بشكل أخص. فبالنسبة إلى الكنيسة، عدد الرعايا في أوكرانيا يناهز عددها في روسيا نفسها، ولكن في مساحة أقل، فخسارة روسيا لأوكرانيا بالنسبة إلى الكنيسة تعني فعلياً خسارة كبيرة لوزنها، هي التي تعد حوالى 180 مليون أرثوذكسي، تُشكِّل بواسطتهم أول كنيسة أرثوذكسية في العالم من حيث عدد الأتباع، تُعوِّضُ فيه عن عقدة النقص التي تعانيها بسبب ترتيبها السادس بين البطريركيات التاريخية الأخرى. وهو ما يفسر موقف البطريركية الروسية المتحفظ حول أوكرانيا، وإن لم يناهز المعارضة العلنية للموقف الرسمي الروسي.
وإلى هذا الجوار القريب، يُضاف الجوار الأبعد، أي الدياسبورا الروسية التي تكتسب أهمية مع تناميها أكثر فأكثر. فهناك حالياً ألف رعية و50 ديراً في هذا الجوار الأبعد، في أوروبا الغربية والولايات المتحدة. يعود هذا الوجود في سويته الأولى إلى الروس البيض، المعارضين للبلاشفة الذين فرّوا إلى تلك البلدان. يُشار إلى أنّ قسماً منهم ممن يعيش في الولايات المتحدة الأميركية، كان قد انشق عن البطريركية الروسية بعد الحرب العالمية الأولى، متهماً إيّاها بالتعاون مع النظام الجديد. وقد عادت الوحدة بينهما سنة 2007 بمسعى من الرئيس بوتين. عامل اضافي ينضم الى لائحة المصالح المشتركة بين السلطة الروسية والكنيسة، ويعكس أهمية الموضوع والتعاون المشترك بينهما.
أما في المجال الدولي، فالكنيسة الروسية تضمّ صوتها لدعم خيارات السلطة، في أوكرانيا، أو في سوريا أيضاً عند بدء التدخل الروسي الجوي.
أكثر من ذلك، فالكنيسة إضافة إلى أنّها عامل دمج اجتماعي روسي داخلي وعامل مساعد يرفد أيديولوجياً السلطة المحافظة في المسائل الأخلاقية (إجهاض، زواح مثليين، وخطاب ضد القيم الغربية)، فهي في الوقت نفسه ولهذه الأسباب أيضاً عامل تمايز ثقافي روسي بمواجهة أوروبا، تُضاف إلى التماس السياسي في أكثر من مكان. هذا عدا عن كونها عامل إعادة تكوين جيوسياسي لقسم من المجال السوفياتي السابق.
بشكل أكثر تفصيلي، فالكنيسة الروسية تدعم ترشح الرئيس الحالي بوتين لولاية رابعة، تضاف إلى الولايات الثلاث السابقة، والتي فارقت بينها ولاية الرئيس مدفيديف (كان خلالها بوتين رئيساً للوزراء). وفي تصريح للبطريرك كيريل، خلال احتفال عيد الميلاد حسب التقويم الشرقي (7 كانون الثاني)، حثّ الأخير الروس، والأرثوذكس خاصة، على التوجه إلى صناديق الاقتراع في الانتخابات الرئاسية المقبلة. وإنْ كان لم يسمِّ مرشحاً محدداً، فالرسالة واضحة باعتبار فوز بوتين بولاية إضافية شبه محسوم، والمشكلة لا تكمن في منافسة أحد المرشحين له، بقدر ما تكمن في نسبة المشاركة المتدنية المتوقعة.
العلاقات بين الدولة والكنيسة الروسيتين مشاركة عضوية وليست شهر عسل عابراً، بل هي زواج كاثوليكي لم يُبطله الهجر ولا سوء المعاملة خلال سبعة عقود من تاريخ روسيا المعاصر، وليس الاستحقاق الانتخابي المرتقب غداً إلا تمريناً روتينياً على «سينيرجيا» (عملية تآزر) واضحة الأدوار والمعالم، أقلّه منذ 18 عاماً.

الثمانينيات وما بعده: «صفحة جديدة»

مع نهاية عقد الثمانينيات، انعقد مجمع أسقفي للتحضير لذكرى ألف عام على تحوّل روسيا الى المسيحية، وتحوّلت المناسبة من كنسيّة حصراً إلى احتفال شعبي شاهد على حيوية معينة ولو محدودة للكنيسة الروسية، ومثّل هذا التاريخ رمزياً وفعلياً صفحة جديدة في تاريخ الكنيسة الروسية.
شكلت نهاية عقد الثمانينيات، ثم تفكك الاتحاد السوفياتي، صفحة جديدة في علاقات الكنيسة بالدولة الروسية أيضاً، تمثل بالانتعاش الكبير في نشاطها ودورها وموقعها على أكثر من مستوى، وهو انتعاش كان للدولة دور كبير فيه. بداية، ومنذ مطلع التسعينيات، أُزيلت كل العوائق القانونية تقريباً التي كانت تعيق عمل الكنيسة، وهو ما تعكسه الأرقام بشكل واضح. إذ ارتفع عدد الرعايا بين أوائل التسسعينيات الى اليوم من 6 آلاف إلى أكثر من 36 ألفاً، بمعدل حوالى ألف رعية في السنة، بينما نما عدد الأديرة خلال الحقبة نفسها من 21 إلى أكثر من 900 حالياً. عدا المدارس اللاهوتية التي تناهز اليوم 50 مدرسة، إضافة الى عدد مماثل من الأقسام اللاهوتية التي تعمل من ضمن أطر المعاهد والجامعات الرسمية التابعة للدولة. هذا كله بمساعدة مباشرة من الدولة الروسية، وفي السياق نفسه كان الرئيس ديمتري مدفيديف قد أعلن في 30 تشرين الثاني 2010 توقيع قانون متعلق برد أملاك الكنيسة، ينص على إعادة 6584 موقعاً، بين كنيسة ودير، للكنيسة الروسية، وهي مبانٍ كانت قد صودرت خلال الحقبة السوفياتية، وحُوِّل بعضها الى متاحف، أو إلى استخدامات أخرى غير دينية. هذا كله يُظهر بشكل جلي رغبة السلطة السياسية في إعادة إحياء الكنيسة الروسية، ورغبة الأخيرة طبعاً بالتعاون مع هذا المسعى.