هجمات ألمانيا: سقوط آخر «الحصون» الأوروبية؟

  • 0
  • ض
  • ض

بقيت ألمانيا، حتى الأمس القريب، خارج دائرة الاستهداف الإرهابي، فيما كان رد فعلها تجاه الهجمات في باقي الدول هادئاً. «لن تقع أحداث مماثلة هنا»، فبخلاف الولايات المتحدة، ألمانيا تفرض أشد القيود على شراء الأسلحة، وبخلاف فرنسا، لا يعاني المهاجرون من التمييز والبطالة. لكنها الآن أمام واقع جديد

«لا يمكن أن يحصل هذا عندنا»، «يمكننا السيطرة على الوضع»، «الهدوء البطولي»... عبارات لطالما استُخدمت في ألمانيا كلّما شهدت دول أوروبية أخرى أو الولايات المتحدة أو سواها من البلدان أعمال عنف ــ إرهابية أو غير ذلك. لكن بعد الحوادث الأربع الأخيرة التي شهدتها ألمانيا، بات نفر غير قليل من الصحافة الغربية يشكك في صوابية هذه الأقوال.

فهل تعرّضُ ألمانيا لهجمات مماثلة يطوي عهد الأمان نهائياً ويعني دخول أوروبا مرحلة جديدة من عدم الاستقرار؟
تشير دوافع الجرائم التي ارتُكبت في الأسبوعين الأخيرين في ألمانيا إلى نمطين من التطرّف في أوروبا: الأول مرتبط بتنظيم «داعش»، كما في حالتي المراهق الأفغاني الذي هاجم ركّاب قطار بالفأس في الثامن عشر من الشهر الجاري في جنوبي ألمانيا، والانتحاري الذي فجّر نفسه قرب آنسباخ، بالإضافة إلى الهجمات التي تبنّاها التنظيم في دول أوروبية أخرى. أما النمط الثاني، كما في حالة مطلق النار في ميونيخ، فتعود جذوره إلى الاضطرابات النفسية والميول اليمينية المتطرفة وكره الأجانب، وهو أشبه بأعمال العنف التي تشهدها الولايات المتحدة. وبين هذا وذاك، ترى معظم الصحافة الغربية أن أوروبا باتت عالقة في دوامة، بين ازدياد وتيرة التطرّف الإسلامي من جهة، ونمو حركات اليمين المتطرّف من جهة أخرى، وهما تهديدان يغذّي بعضهما بعضاً. فعلى سبيل المثال، يرجع الكثير من المحللين التقدم الذي حققه حزب «البديل من أجل ألمانيا» اليميني المتطرف المعادي للاجئين مثلاً إلى الاعتداءات الجنسية التي شهدتها مدينة كولونيا الألمانية في مطلع هذه السنة، والحال كذلك بعد كلّ هجوم إرهابي تتعرض له أوروبا.
صحيفة «نيويورك تايمز» الأميركية تساءلت منذ أربعة أيام: أيهما يمثل الخطر الأكبر بالنسبة إلى أوروبا، الإرهاب أم اليمين المتطرف؟ مضيفة أنّ خوف الألمان من الإرهاب لا يتوقف عند الهجمات بذاتها، بل إن الهاجس الأكبر لديهم يكمن في طريقة تعامل اليمين الألماني المتطرف معها. فلألمانيا، بخلاف فرنسا مثلاً، تاريخ نازي ما زالت تسعى عند كلّ منعطف إلى التبرؤ منه، وتثير حوادث كالتي شهدتها ميونيخ خشية لدى معظم الألمان من تدمير «صورة البلد المتسامحة وهويته الكونية» اللتين سعى إلى بنائهما طوال العقود الماضية.
هذا التاريخ كان كفيلاً بإحداث فرق كبير بين رد الفعل الألماني على الهجمات الأربع والرد الفرنسي في أعقاب جريمتي نيس وقتل الكاهن جاك هاميل. في افتتاحية الأربعاء الماضي، رأت صحيفة «ذا غارديان» البريطانية أنه فيما يتحدث القادة الفرنسيون عن ضرورة «الخروج منتصرين» من «الحرب» (ضد التطرف الإسلامي)، بقي خطاب القيادة الألمانية أقل دراماتيكية، إذ تحدثت أنجيلا ميركل عن أهمية التسامح وشددت على ضرورة عدم المزج بين الإرهاب واللاجئين أو المهاجرين، كذلك عبّرت عن تعاطفها مع الضحايا من دون الإيحاء باتخاذ إجراءات أمنية وعسكرية، بخلاف فرنسوا هولاند، وأصرت على الاستمرار بسياسة «الأبواب المفتوحة» تجاه اللاجئين.


أشارت حالة
الذعر إثر الهجمات الأخيرة إلى فقدان الشعور بالأمان


ولا يقتصر الفرق بين البلدين الأوروبيين المركزيين على طريقة التعامل مع الأزمة، بل إن له جذوراً اجتماعية ــ اقتصادية، وسياسية عميقة. فالبعض كان يرى مثلاً أن ألمانيا محصّنة أكثر من سواها ضد الهجمات الإرهابية، وأن «مظلة الحماية» التي نعمت بها طوال سنوات سببها دولة الرعاية للجميع والتوظيف الكامل والمزايا الاجتماعية وغياب التمييز الإثني، وسياسة الأبواب المفتوحة أخيراً، بخلاف فرنسا التي تعاني من تصادم بين هويتها الوطنية العلمانية وواقعها الاجتماعي، والتي يزداد يمينها المتطرف المتمثل بـ«الجبهة الوطنية» قوة بخطابه المعادي للاجئين والكاره للأجانب عموماً، وفق ما يرون. ولكن كل ذلك تغير اليوم، وثبت عدم صحة هذه النظرية. فألمانيا قد تعرضت بالفعل لهجومين تبنّاهما تنظيم «داعش»، خلقا حالة من الرعب في البلاد، بصرف النظر عن الفرق الهائل في عدد الضحايا بين هاتين الجريمتين والهجمات التي تعرضت لها فرنسا في السابق.
تقول الكاتبة لينا جاكات في «ذا غارديان» إنّ الدليل على فقدان الشعور بالأمان هو حالة الذعر التي سادت في ألمانيا إثر الهجمات الأخيرة، وعدم انتقاد استجابة الحكومة والأجهزة الأمنية على قاعدة أنهما «بالغا في رد الفعل» أو «أساءا تقدير الوضع»، كما حصل في ليلة رأس السنة، عندما أصدرت الشرطة تحذيراً للمواطنين من هجمات إرهابية محتملة وأخلت محطتي قطار رئيسيتين ونشرت عناصرها المدججين بالسلاح في الشوارع. في تلك المرة، لم يشعر الألمان بالخطر جدياً، وكرروا في أذهانهم العبارات نفسها التي تذكروها عند كل منعطف مماثل: «لا يمكن أن يحصل هذا عندنا»، و«يمكننا السيطرة على الوضع». وتعاملت البلاد مع المسألة عموماً بـ«هدوء بطولي». لم يخلِ الناس الطرقات، ولم تسُد حالة من الذعر، ولم يتسمّر الألمان أمام نشرات الأخبار وشاشات هواتفهم كما فعلوا خلال الهجمات الأخيرة.
يبدو إذاً أن أوروبا تدخل مرحلة جديدة من عدم الاستقرار مع انضمام ألمانيا إلى «نادي» الدول المستهدفة من الإرهاب العالمي. وهي لا تواجه تهديدين من طبيعتين مختلفتين فحسب، بل إن دول المركز الأوروبي تطبّق سياسات مختلفاً بعضها عن بعض جذرياً في التعامل مع المشكلة. ولعل من المجدي هنا تكرار ما قاله البعض عن أن من سوء الحظ ربما أن كل هذه التساؤلات تترافق مع أزمات أخرى، مثل «البريكست» وما يستتبعه على المنظومة السياسية الأوروبية، أو حتى الأزمة التي يُحتمل أن تواجهها إيطاليا عقب استفتائها الدستوري في تشرين الأول المقبل، وهي كلها مشاكل تزيد من الضغوط على الاتحاد الأوروبي.
ومن سوء الحظ أيضاً، أن معضلة إضافية برزت في سياق بحث النخب الأوروبية عن سبيل لمعالجة مشكلة الإرهاب، تتمثل في أن استباق الهجمات الإرهابية ومنعها يتطلبان تطبيق إجراءات تنافي القيم والحريات التي بُنيت الهوية الأوروبية على أساسها. بعبارة أخرى، قد تبدو النخب الأوروبية عالقة بين ضغوط الحركات اليمينية المطالبة بالتخلي عن بعض مبادئ الديموقراطية الليبرالية وعن المنظومة الأوروبية بشكلها الحالي من جهة، وبين التهديدات الإرهابية من جهة أخرى. وبالتالي، يعتمد المسار الذي ستسلكه أوروبا مستقبلاً على النتيجة التي ستتوصل إليها هذه النخب في مواجهة التيارات التي تتبنى ما يسمى «خطاباً شعبوياً»، خصوصاً مع الانتخابات المرتقبة في فرنسا وألمانيا العام المقبل، التي ستحدد موقف القارة عموماً من هذه المسائل، وإن كان الاتحاد الأوروبي سيخرج منها موحّداً.

  • بقي الخطاب الألماني الرسمي أقل دراماتيكية من نظيره الفرنسي

    بقي الخطاب الألماني الرسمي أقل دراماتيكية من نظيره الفرنسي (أ ف ب )

0 تعليق

التعليقات