يرسم يسارٌ أوروبي داعم لبقاء بريطانيا في الاتحاد الأوروبي صورة لأوروبا ما بعد الـ«بريكست» وكأنها قارة مشتتة تفككها دول قومية، ويحكمها يمينيون متطرفون. أغلب تلك القارة «المتخيلة» هم من الفقراء، فيما ستندلع حروب بين دول مختلفة فيها، وستسود على صعيد التجارة اتفاقات (مثل الشراكة الأطلسية للتجارة والاستثمار) تهزأ من جميع معايير أوروبا الاستهلاكية والصناعية والمعيشية.عملياً، يحثّ هذا التوجّه الشعب البريطاني على التغاضي عن مشاكل الاتحاد الأوروبي البنيوية التي تمنعهم من المشاركة في صنع القرار وتفرض عليهم سياسات اقتصادية تقشفية، وذلك للتحالف مع النخب الحاكمة التي قادت أوروبا أصلاً إلى الأزمات وأصرّت على سياسات أثبتت فشلها، وأضعفت الطبقة العاملة، ودمّرت اقتصاد دول. أما الحجة، فهي أنه في حال لم يقبل الأوروبيون بحكم هؤلاء، سيذهب الحكم إلى اليمينيين المتطرفين.
قد يُعدّ تهديد البريكست عاملاً مساعداً لتغيير السياسات الاقتصادية

على إثر أزمة 2008 المالية في الولايات المتحدة، والتي كانت تداعياتها أوروبية ودولية نظراً إلى الارتباط بالاقتصاد الأميركي، بدأت تظهر المشاكل البنيوية التي يعاني منها الاتحاد الأوروبي، خاصة أنه منظومة تتمحور حول توحيد العملة، لا السياسة. سيتجلّى ذلك بوضوح في اليونان التي اعتبرها وزير المال السابق، يانيس فاروفاكس، «قرباناً ضُحّي به» لتحذير بقية أوروبا من تداعيات مخالفة أوامر «الترويكا»، حتى وإن كانت النتائج كارثية.
كان صعود ذاك التيار أو التوجّه اليساري نتيجة لهذه الأحداث، وهدف أحزابه تنظيم الرأسمالية واحتواء آثارها السلبية على الطبقة العاملة، مع تأمل البعض منهم «بتطوّر العوامل الثورية» حتى يوجد بديل للرأسمالية ذو قابلية للتطبيق. منذ البداية يأمل هذا اليسار في أن يحقق أهدافه المتواضعة عبر إقناع النخب الحاكمة بأن سياساتهم فاسدة. وكانت الصدمة بالنسبة إليهم عندما اكتشف سياسيو «سيريزا» أن الأوروبيين يعلمون جيداً ماذا يفعلون، وهم على أتم الاستعداد لتحمّل التبعات، ولذلك لم تعن انتفاضة شعب اليونان شيئاً لأن الأولوية تكمن في تطبيق السياسات المالية الأوروبية (التي تحدد توجهاتها بشكل كبير ألمانيا). ولم يؤثر انتخاب «سيريزا» مرتين، وتصويت اليونانيين بـ«لا» في الاستفتاء الشعبي حول قبول أو رفض «رزمة الإنقاذ» التقشفية التي قدمتها «الترويكا» لدولتهم، على قرارات النخب الأوروبية.
ليس لدى هذا التيار اليساري طروحات جذرية بديلة، كما أنه لا يشكل خطراً على الرأسمالية بتاتاً، في وقت أنّ تصوّر انهيار الاتحاد الأوروبي اليوم أسهل بكثير من الاقتناع جديّاً بأنه سيتغيّر نحو الأفضل. الكاتب في صحيفة «ذي غارديان»، أوين جونز، يقول: «قد يعدّ تهديد البريكست عاملاً مساعداً... لأنه ليس هناك حافز يدفع ألمانيا إلى تغيير سياساتها، إلّا في حال بدا الأمر وكأنها تتسبب في تفكيك الاتحاد. عندها ستتنازل لمصلحة من يعارض الواقع القائم».
المفكر السلوفيني، سلافوي جيجك، يرى أنه لا يمكن الهرب من الرأسمالية العالمية، ولذلك يجدر لمجابهتها ألا تقسّم القارة إلى دول قومية ضعيفة. لكن، ما يتجاهله هذا الطرح، هو أن الاتحاد الأوروبي، من حيث التاريخ والهدف والبنية، نشأ تحديداً لخدمة الرأسمالية العالمية، ومن هذا المنطلق، ليس هناك مبرر لاعتباره قابلاً للتغيير الجذري. لذلك، يبقى في الخروج من الاتحاد فرصة للبريطانيين، ولليساريين منهم خاصة، للمشاركة الفعالة في تشكيل مستقبل بلادهم.