يمكن قياس مدى تأثّر الولايات المتّحدة بالأزمة الماليّة من خلال الإضاءة على مدى تراجع الإنفاق الاستهلاكي في البلاد، الذي يمثّل ثلثي النشاط الاقتصادي. فهذا الإنفاق تراجع بنسبة 4 في المئة خلال فترة الأعياد. واقع يوضح مدى قلق الطبقة الوسطى التي بدأت تتقلّص لتنزلق عائلات عديدة إلى الفقر ويزداد عدد المشرّدين والمتسوّلين
نيويورك ـ نزار عبود
خلال رحلة الربع ساعة في خط القطار بين كوينز ومانهاتن في نيويورك، يلقي متسوّل أسود خطاباً بإنكليزيّة فصيحة غنية بالمعاني والحكمة، ولا يخلو من التنبيه إلى مخاطر المستقبل. يستدرّ العواطف، لكنه في الوقت نفسه يحذر من عواقب تجاهل المجتمع لأشخاص مثله. يقول: «أنا لا أؤذي أحداً لكني أتعرّض للأذى كلّ يوم. مشرّد مسالم أرتضي العيش بين القطارات في البرد والحر. يركلونني وأنا نائم ويضربونني أحياناً على ظهري، ولا أردّ. حرموني الصحة والمأوى والمسكن والرحمة. لكني أحب الناس، وأثق بعطفهم. لا تجعلوني أفقد الأمل والرحمة».
ظاهرة التسول تكثر في أغنى مدن العالم التي تحيط بها أحياء الفقر. شمال مانهاتن وجنوبها، شرقها وغربها، كلّها أحياء فقيرة تضمّ ملايين السكّان ويزداد عدد فقراء الأحياء يومياً. ومع زيادتهم يرتفع القلق على الأمن الاجتماعي. فأكثر من مليون صاحب بيت باتوا حتى الآن بلا مأوى بعد حجز المصارف لمساكنهم وبيعها بالمزاد. وصاحب المسكن يكون عادة معيلاً لأسرة. والفقر المتفشي يغذي في حدّ ذاته حلقة مفرغة من الأزمات المتلازمة. فالثروات الشخصية من أسعار المساكن والأسهم تآكلت في الفصل الثالث من السنة بواقع 2.8 تريليون دولار ليصبح مجموع قيمة الثروات العينية 65.5 تريليون دولار. وهذه أكبر نسبة انخفاض في قيمة الثروات منذ 57 عاماً بحسب التقديرات الرسمية.
سبق ذلك هبوط بواقع 393 مليار دولار في الفصل الثاني، و2.4 تريليون دولار في الفصل الأول، و1.5 تريليون دولار في الفصل الرابع من العام الماضي عندما انتهى عصر النمو المستمر منذ عام 2003. وتقلصت الثروات بنسبة تزيد على 11 في المئة خلال سنة. وهي أعلى نسبة عرفتها الولايات المتحدة حتى الآن.
ومع اختفاء الوظائف تزداد الخشية من تدهور الأمن وانتشار الجريمة بعدما نعمت نيويورك بعشر سنوات من الأمن النسبي. جيوش من أفراد الطبقات الوسطى تنحدر إلى الطبقات الفقيرة مع فارق أنها متعلمة وقابلة للتنظيم في زمن يسهل فيه التواصل بين الجماعات بعكس ما كانت عليه الحال قبل بضعة عقود.
الشعور بالفقر يدفع الأميركيين إلى التقشف ونبذ البذخ الاستهلاكي الذي اعتادوه مستفيدين من القروض السهلة. وكلما قلّصوا الاستهلاك زاد إقفال المصانع، وزادت نسبة البطالة: تلازمٌ في العلاقة لا يُعرف مداه. والأخطر من ذلك هو أنّ معدّل الفقر الذي كان 12.5 في المئة في 2007قد يرتفع ارتفاعاً ملموساً العام المقبل، إذا لم تستطع رزمة التحفيز الاقتصاديّ التي يدرسها الفريق الاقتصادي للرئيس المنتخب باراك أوباما، وقد تقارب قيمتها الـ730 مليار دولار، إعادة النموّ ومساعدة الفقراء ودعم الطبقة الوسطى. ما يعني أنّ عدد الفقراء سيزيد على 38 مليون فقير بفارق كبير.
الانحسار المالي خلال هذه الفترة جعل المحال التجارية تعلن حسومات بنسب تصل إلى 70 في المئة على بعض السلع للتخلص من مخزون قد يكسد طويلاً. وهي في حاجة إلى تسديد أقساط الديون. واللافت هو أنّه خلال موسم الأعياد هبطت مبيعات التجزئة بحوالى 4 في المئة مقارنةً بالعام السابق، وفقاً لدراسة أعدّتها مؤسّسة «Spending Pulse». ما يجعل هذا الموسم واحداً من أسوا المواسم في البلاد، التي تعتمد على الإنفاق الاستهلاكي، وخصوصاً في أواخر السنة. حيث يتركّز 20 في المئة من الإنفاق الاستهلاكي خلال شهري تشرين الثاني وكانون الأوّل.
من جهة فإنّ مردود قطاع المواصلات يتقلّص كثيراً، وهناك تفكير في رفع تكلفة النقل من أجل تغطية النقص في عدد الركاب بسبب البطالة. إجراءات ستزيد من حدة الأزمة. وهناك ضرورة أيضاً إلى زيادة الضرائب على المقتدرين. وهذا يحدّ من جاذبية الولايات المتحدة للاستثمار.
الأميركي يدخل في هذا الظرف أزمة البطالة والإفلاس مديوناً كثيراً. فالمديونية الفردية وصلت إلى 14 تريليون دولار بعد وصول نسبة الادخار إلى الصفر. وكانت المديونية المحرك الأساسي للاقتصاد في مرحلة النمو. ولم يعد لدى الكثير من الأميركيين المسرّحين من الوظيفة ما يدخرونه. أما أولئك الذين لا يزالون يتلقون راتباً في نهاية الشهر، فإنهم يحجمون عن الإنفاق، وبحرصهم يفاقمون حدة الأزمة.
وحتى الآن لا يزال المسن الأسود يلقى من الركاب عطفاً ويحصل على ما بين 5 دولارات و10 دولارات بعد كل خطاب مؤثر يلقيه. لكن حتى هذا الدخل مهدّد بالتقلّص مع تفاقم أكثر الأزمات الاقتصاديّة تهديداً لاستقرار الولايات المتحدة وأمنها حتى الآن.


أسوأ الأعياد!

بحسب دراسة «Spending Pulse» فإنّ موسم الأعياد في الولايات المتّحدة، الذي يمتدّ من اليوم الذي لحق يوم عيد الشكر وحتّى عشيّة عيد الميلاد، كان الأسوأ منذ عقود، وهذا وضع خطير جداً لأنّ هذه الفترة قد تؤمّن 40 في المئة من العائدات السنويّة لبائعي التجزئة. وعلى سبيل المثال انخفضت مبيعات الملابس الأنثويّة بنسبة 22.7 في المئة، وتراجعت مبيعات الثياب للرجال بنسبة 14.3 في المئة. وانخفضت مبيعات الأحذية بنسبة 13.5 في المئة. ما يعني أنّ العيد كان سيّئاً على العديد من الأميركيّين، جميعهم ربّما باستثناء الأغنياء.