هي «ديفا» التمثيل في أوروبا. تطفو على غيمة أثيرية تحمل عدداً محدوداً من الأسماء. جولييت بينوش (1964 ــ الصورة) ليست نجمة بالمعنى اللامع في «هوليود بوليفارد 6801». هي أحد الأسماء العابرة للقارات بتوهّج دائم ووجه لا يشيخ. قد تحمل فيلماً فرنسياً كاملاً على كتفيها، وقد تكتفي بظهور في شريط هوليوودي أو إيراني. «البينوش»، حسب التفخيم الفرنسي الملكي، تبدو اليوم مسترخيةً أكثر من أيّ وقت مضى. تظهر واثقةً، نضرةً بعد سنّ الخمسين. نظرة ثاقبة إلى نقطة وهم جانب الكاميرا. جسد لا يخجل من عرض نفسه عند الحاجة. استغراق تام. روح تحرّض الفيتيش بخجل طفولي. في جولييت بينوش تتجسّد الممثّلة/ النجمة كما يجب أن تكون. الفيلموغرافيا منوّعة إلى حدّ رهيب: غودار وكاراكس ومانغيللا وهانيكه وفيرارا وكوفمان وكيارستمي وهولستروم وكروننبرغ ودومون، وبالتأكيد الأسطورة الراحل صاحب ثلاثية الألوان كيشلوفسكي.
هي أوّل من يخطف تاج الجوائز الأوروبيّة الثلاث كأفضل ممثّلة (كان وفينيسيا وبرلين)، إضافةً إلى أوسكار وبافتا أفضل ممثّلة في دور مساعد عن «المريض الإنكليزي» (1996).

في حوارها الأخير مع صحيفة الـ«غارديان» البريطانية عن فيلمهاClouds of Sils Maria (عام 2014) لصديقها القديم أوليفييه أساياس، تناول الحديث أوجه التشابه بين بينوش وماريا. ممثّلة ما بعد منتصف العمر، تعود للعمل في نسخة جديدة من المسرحية التي أطلقت شهرتها منذ 20 عاماً. الدور الرئيسي من نصيب نجمة هوليوودية هذه المرّة. مساعدتها «فالنتاين» (كريستين ستيوارت) تحرّض حواراً فكرياً حول الاختلاف بين المشهد الفنّي في فرنسا (أوروبا) وهوليوود. تفجّر قنبلة وجودية داخل الممثّلة العتيقة. «لا أتعامل معها بشكل شخصي. ربمّا عليّ أن أفعل، لأنّها بالمجمل كذلك». تقول بذلك الاسترخاء والحماسة والشغف الدائم تجاه العمل، لتضيف: «هناك نظام للعمل في هوليوود، وآخر في فرنسا. لطالما عملتُ على تفادي أيّ نظام. عليك أن تبدي بعض المقاومة. الانقياد أشبه بعملية غسل للدماغ. إنّه أمر مخادع بطريقة ما». في ميكانيزم العمل على الشريط، تراعي بينوش دروس التمثيل التي تلقتها منذ سنّ المراهقة. تحبّ عمل البروفات على المشهد، فيما شريكتها الشابّة تراجعه قبل دقائق من دوران الكاميرا (نالت ستيوارت جائزة سيزار لأفضل ممثّلة في دور مساعد). في رأي جولييت، هذا يبقي شخصية النجمة الأميركية حيوية وعفوية: «إنّها طريقتها في التعامل مع خوفها». تصل الممثّلة ومساعدتها إلى مشهد البحيرة. تتعرّى «ماريا» ببساطة كما لو كانت بمفردها على الكوكب، فيما تُبقي «فالنتاين» بعض الملابس قبل الخوض في المياه. هل هذا الفرق بين فرنسا غير المأهولة وهوليوود المثقلة بالحسابات؟ تضحك: «لم نتحدّث عن ذلك قبل المشهد. لم أكن أعلم إذا كانت كريستين ستتعرّى أو لا. أعتقد أنّ الخيار كان تلقائياً أكثر ممّا تظن. الشخصيتان وحيدتان عند البحيرة. ثمّة نوع من الإغواء في المناخ. شخصيتي أكثر تحرّراً، لذلك لم يكن التحفظ خياراً صائباً. لكن ربّما أرادت المساعدة حماية نفسها، فكان قرارها منطقياً. أستطيع أن أشرح المشهد بهذه الطريقة». على عكس ماريا، لا تلتفت جولييت إلى الخلف: «الماضي مهمّ فقط كوقود لعمل اليوم. أستعين بالذكريات واللحظات وذاكرتي الانفعالية وأفعالي السابقة، ولكن هذا فقط لأنّك تصبح أفضل مع ازدياد الخبرة». هكذا، ترى أنّها ممثّلة أفضل ممّا كانت عليه في سنّ الـ 18.
رغم انتمائها إلى عائلة متوسطة ذات ميول فنيّة (شقيقتها ماريون مصوّرة ووثائقية محترفة)، إلا أنّ الطريق لم يكن سهلاً. «آمنت بنفسي، في الوقت الذي لم يفعلها أحد. شعرتُ بالثقة. الحاجة للتعبير عن ذاتي كانت كبيرة. في داخلي، شعرت بالشغف والاندفاع والرغبة في الهجوم». بعد عدد من العروض المسرحية، تلقفتها سينما المؤلف ولم تفلتها حتى اليوم. عام 1985 شهد عملها مع جان لوك غودار في Hail Mary، ومع جاك دوايون في Family Life، ثم مع أندريه تيشينيه في Rendez-vous الذي صنع نجوميتها داخل البلاد (شارك أساياس في السيناريو). تقول: «كانت الشهرة أمراً صعباً على عائلتي. بالنسبة إلى شقيقتي، كان التسوّق أو توقيع شيك يمثّل مشكلة، فانتهى بها المطاف إلى تغيير اسمها. إنّها مشكلة حقيقية تحتاج إلى التكيّف. عندما يختلّ التوازن الطبيعي في العائلة، تطفو المشاعر وردود الفعل على السطح».
لنعيد سرد الحادثة الشهيرة في مسيرة بينوش. كانت محلّ إعجاب ستيفن سبيلبيرغ. في الوقت الذي كان فيه الممثّلون ينحتون الصخر للوقوف أمام كاميرا السينمائي الأميركي، رفضت بينوش دوراً عام 1993 فيJurassic Park من أجل «أزرق» كريستوفر كيشلوفسكي. تتذكّر الواقعة أثناء الحديث عن ستيوارت: «اتخذتُ قراراً واضحاً بعدم الذهاب إلى أميركا والبقاء في فرنسا. كريستين بدأت مبكراً، وانطلقت بانفجار Twilight في عالم المراهقين. لديّ اهتمام أكبر بالأعمال المغرية للنقاد. لكل منّا حكاية مختلفة، ولكن ذلك ليس أفضل أو أسوأ. أنت تختار مسارك الخاص، وتأمل أن تلاقي الآخرين في المنتصف». مسرحيتها الأخيرة «أنتيغون» حقّقت نجاحاً لافتاً. عنوان آخر يُضاف إلى سلسلة ذهبية على خشبات العالم. هنا، تفرد بينوش ذاتها حتى الأقصى. تستغلّ مواهبها الأخرى في الرقص المعاصر والرسم. لا أبهى من عرقها اللامع على نصوص لويجي بيراندلو وأكرم خان وهارولد بنتر الذي جاءها بترشيح لجائزة «توني» (الأوسكار المسرحي).
«ملكة التمثيل» حسب وصف مخرج النسخة الأخيرة من «غودزيلا» غاريث إدواردز، لا تفضّل نوعاً على آخر. «اليوم أكثر من السابق، أحبّ مشاهدة الفرقة تجهّز المسرح، والطاقم الفنّي يستعدّ للقطة القادمة. سابقاً، كنتُ أذهب إلى مقطورتي للتحضير. ولكن، تبيّن لي أنّ أفضل طريقة للاستعداد هي التواجد مع الآخرين، لأنّ العلاقة هي أن تجري الأحاديث».
مرّت بينوش بعلاقات عاطفيّة مع أسماء بارزة: ماثيو أمالريك، ودانيال داي لويس، وليو كاراكاس. أنجبت مرّتين: رافيايل (21 سنة) من الغوّاص أندريه هال، وهانا (15 سنة) من الممثّل بينو ماغميل. تقول: «العلاقات والأصدقاء مشكلة أخرى. الشهرة تزعزع الاستقرار، ولكن نحاول المضيّ معاً. عملي مهم، ولكن علاقاتي أيضاً. المسألة ليست طرفاً ضدّ آخر. أولادي لم يأتوا مصادفةً. ما أريد القيام به في الحياة أمر يعود إليّ، لكن يبقى مكان لأمور أخرى. عليّ أن أكون أمّاً كذلك».
يقول عنها أساياس: «جولييت نزيهة، مقدامة، ساذجة، وتثق بالآخرين. عندما تقرّر العطاء، فهي تعطي كل شيء. وعندما تعمل مع شخص غير كفوء، فإنّها تنتهي في أماكن سخيفة. هي تمضي على طول الخط، وأحياناً تذهب بعيداً جداً».
منذ سنوات، أبدى الأسطورة الفرنسي/ الروسي (النزق أخيراً) جيرار دوبارديو انزعاجه من شهرتها، قائلاً: «لا تملك شيئاً. هل يمكن أن تشرح لي ما هو السرّ المفترض في هذه الممثّلة؟». تردّ بعد تفكير: «أعتقد أنّ هناك سراً. عندما تكون أمام الكاميرا يحدث شيء ما. علاقة أو حركة أو ترقّب ما. عندها، تعثر في داخلك على ذلك المستوى الكامن في كل فرد. تتخيّل أنّ كل القلوب تخفق في قلب واحد. الأمر كذلك. إنّه شيء جميل». تقولها، ثمّ تحرّك يديها كطعنات متتالية، كما مشهد الحمّام الشهير في «سايكو» هيتشكوك: «لقد أراد قتلي، ولكن ما زلتُ هنا».