ماذا كانت «وعد» أو عهد التميمي أو أي أسيرة أو شهيدة فلسطينية لتقول لآن فرانك، لو أتيحت لها الفرصة؟ ربما كانت ستحكي لها قصةً تعرفها الفتاة الألمانية اليهودية جيداً، فتتماهى معها وتجد فيها جزءاً من ذاكرتها، قبل أن تتعرّف إلى هوية كلٍّ من الجلاد والضحية هذه المرة. ماذا كانت الفتيات المراهقات اللواتي اعتُقلن من قِبل الاحتلال الاسرائيلي ليقلن إلى واحدة من أشهر الضحايا في القرن العشرين؟ لن تقدم مسرحية «رسالة إلى آن فرانك» (كتابة سمية الشمالي، دراماتورجيا شادي كنج، إخراج عوض عوض) إجابةً مباشرة على هذا السؤال، إذ إن الرسالة التي كتبتها وعد، ابنة الثلاثة عشر عاماً التي اعتقلتها قوات الاحتلال الإسرائيلي، يتم تمزيقها قبل نهاية العرض.
استطاعت رلى حمادة ومدى حرب حبس أنفاس الجمهور وحتى إبكاءه في بعض مشاهد الذروة

لن نكون في المسرحية التي يستمر عرضها في «مسرح مونو» حتى السادس من الشهر الحالي أمام «مذكرات آن فرانك» الشهيرة (نُشرت بالألمانية عام 1947، وتحوّلت إلى مسرحية عام 1955)، بل أمام يوميات امرأة فلسطينية، تبني منزلها مرةً أخرى بعدما دمّره الاحتلال الإسرائيلي مرات عدة. حياةٌ سيزيفية تعيشها حنان (رلى حمادة) أو كايدة، اسمها المستعار الذي وقّعت به رسومها الكاريكاتورية قبل أن يقلع الإسرائيليون أظافرها في المعتقل. ضمن سينوغرافيا هي عبارة عن بيتٍ نصف مهدّم، حجارته مرقمة كي تسهل على حنان إعادة بنائه كل مرة، يتحوّل تارةً إلى غرفة تحقيق وطوراً إلى زنزانة، وفي لحظةٍ ننتقل أيضاً إلى أمستردام حيث اختبأت فرانك في مبنى سرّي.
في كريشندو محكم، مسكت الممثلتان إيقاعه بشكل ممتاز، مع أداء لافت للممثلة مدى حرب التي انتقلت ببراعة من دور الضحية إلى دور الجلاد، من فتاة السادسة عشر إلى ضابط في جيش الاحتلال يعذّب ضحاياه، نعيش صراعاً تاريخياً مجسداً على الخشبة بامرأة فلسطينية وفتاة يهودية. حنان، قتل الاحتلال أغلب أفراد عائلتها واعتقل ابنتها وعد لأنها بصقت في وجه جندي إسرائيلي، في إحالةٍ مرجحة على الأسيرة الفلسطينية المحررة عهد التميمي التي صفعت جندياً. تستجمع المرأة قوتها وتحاول البقاء في ظلّ الموت والفقر، قبل أن تخترق حياتها ذات يوم فتاةٌ غريبة اسمها آن، في السادسة عشر من العمر، تتضوّر جوعاً وتبحث عن مأوى. تعطف حنان عليها، تطعمها وتلبسها برغم الشكوك التي تعتريها حيالها. تبدأ الفتاة بطرح أسئلة كثيرة، موحيةً بجهلها بفلسطين وبالصراع على أرضها، ومعتقدةً أن «الأشرار» لا يزالون نازيين، وأن القضية التي يتمحور حولها الصراع هي دائماً معاداة السامية. يتصاعد الحوار بين الشخصيتين ومعه إيقاع العرض، قبل أن تتحول الفتاة البريئة إلى محتلة، متبنيةً الخطاب الصهيوني بالكامل. تحاول الفتاة طرد حنان من منزلها، تتشفى من آلامها، بشهدائها ومعتقليها، قبل أن تتلبّس شخصية ضباط الاحتلال، الذين حققوا مع حنان وعذبوها، وفعلوا الأمر نفسه مع ابنها وابنتها.
يطرح العرض قضايا إشكالية ويسقط صفة النازيين على الإسرائيليين


في «رسالة إلى آن فرانك»، سنكون أمام ساعة من لعبةٍ ثنائية تبدأ بالتماهي، أو توحي بذلك على الأقل، ثم تنتقل بخفةٍ إلى التعارض والصراع الذي يصل إلى ذروته في مشاهد محددة، تحاول فيها البطلتان قتل بعضهما الآخر. ينتهي التحدّي على الخشبة بتمكن حنان من طرد الفتاة الدخيلة، فنرى المرأة الفلسطينية ذاهبةً لتقابل ابنتها في المعتقل قبل أن توصي ابنها (زمن حمادة) بحراسة المنزل في غيابها، في ترميزٍ إضافي، لـ«تسليم» إرث المأساة الفلسطينية من جيلٍ إلى جيل، وإلى كون القضية لن تنتهي مع رحيل جيل معيّن.
ثيمة «تبادلية» دور الضحية والجلاد تطغى على العمل، وهو سؤالٌ شائك، خصوصاً حين يكون هذا التبادل بين ضحايا الهولوكست وضحايا الاحتلال الإسرائيلي. إسقاط صفات النازيين على الإسرائيليين، علاقة الفلسطينيين باليهود كجماعة دينية وببعضهم كضحايا إبادة (تعلن حنان في أحد المشاهد مثلاً أنها «لا تكره اليهود»)؛ كلها قضايا مهمة وإشكالية وإن كان علاجها سقط في المسرحية أحياناً في فخ الكليشيهات والترميز الفاقع. إلا أن أداء الممثلتين الفائق الحساسية تمكن من إنقاذ المسرحية برغم ذلك. استطاعت رلى حمادة ومدى حرب حبس أنفاس الجمهور وحتى إبكاءه في بعض مشاهد الذروة، ومن إضحاكه في أخرى، في سخريةٍ خفيفة غلّفت المرارة وسوداوية الواقع الذي تجري أحداث المسرحية فيه.
«رسالة إلى آن فرانك» كانت فعلاً رسالة إلى الضحية الشهيرة التي اختارتها مجلة «التايم» الأميركية عام 1999 بين أكثر مئة شخص مؤثرين في القرن العشرين، حاولت «إحراج» السردية الإسرائيلية عبر تشبيه ممارسات الاحتلال بتلك النازية، وبإظهار الضحية واحدة في العموم.
يُذكر أن مخرج العرض عوض عوض، خصص جزءاً كبيراً من أعماله للقضية الفلسطينية، إذ رأينا قبل نحو سنتين مسرحية «أيوبة» التي سردت قصة لاجئة فلسطينية، اتخذت اسمها من الصبر على آلام الرحلة الطويلة التي عاشتها منذ النكبة. امتزجت في حينه القضية الفلسطينية بالهمّ النسوي الذي نرى طيفه في «رسالة إلى آن فرانك» كذلك، لا سيما مع شخصية حنان، المكافحة والصابرة أيضاً.

* «رسالة إلى آن فرانك»: حتى 6 تشرين الأول (أكتوبر) ــ «مسرح مونو» (الأشرفية) ـ للاستعلام: 01/202422