المستحيل في عصر الديجيتال، هو أن تفرض الولايات المتحدة عقوبات على شركة «هواوي» الصينية منذ عام 2019، وأن تمنع وصول الأجهزة والخبرات المتعلقة بصناعة أشباه الموصلات المتقدمة إلى الصين، ثم، من دون أي مادة إعلانية واحدة، تطلق «هواوي» هاتفها الذكي Mate 60 Pro، الذي يحتوي على شريحة إلكترونية بحجم 7 نانومترات، بعدما كان الاعتقاد أنّ العقوبات أوقفت الصين عند حدود قياس 28 نانومتراً وربما 14 نانومتراً. والأهمّ أنّ ذلك حصل خلال زيارة وزيرة التجارة الأميركية جينا ريموندو إلى البلاد الشيوعية في 28 آب (أغسطس) الماضي!هو انتصار كبير. ليس نهائياً، ولا يعني أنّ المهمة أُنجزت، لكنّه انتصار. أشباه الموصلات موجودة في كل شيء من حولنا: الغسالة والتلفزيون والسيارة والهاتف والكومبيوتر والدبابة والصواريخ... وكلما استطاعت جهة أن تنتج أشباه موصلات بقياس أصغر، يعني ذلك قوة حوسبة مضاعفة واستهلاكاً أقل للكهرباء. هي تكنولوجيا تضع الدول التي تصنعها في المراتب المتقدمة جداً. إنه نادٍ صغير. ولفهم صعوبة ما أنجزته الصين، علينا سرد هذه القصة:
دورة صناعة الشرائح الإلكترونية عملية بالغة التعقيد بحاجة إلى تعاون دولي. في عالمنا اليوم، تأتي المواد الأولية لصناعة الشرائح من الصين واليابان وأوكرانيا، فيما تأتي المعدات التي تنتج أشباه الموصلات المتقدمة من شركة واحدة اسمها ASML في هولندا، وهندسة الشرائح والبرمجيات التي يتم تثبيتها عليها تأتي من الولايات المتحدة. أما صناعة وإنتاج الشرائح الإلكترونية بعد الحصول على كل ما سبق، فتتم في تايوان، وغالبيتها لدى شركة TSMC. هذه الدورة والترابط، لم يكونا دائماً هكذا، وهما نتاج حصر أميركا لهذه الصناعة لدى حلفائها، بحيث تبقى المعرفة بعيدة عن الخصوم.
إبّان إدارة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب في عام 2019، شنت الولايات المتحدة أعتى حملة مضايقة وعقوبات على شركة «هواوي» الصينية. الأخيرة كانت على بعد سنوات قليلة من إزاحة «آبل» عن عرش صناعة الهواتف الذكية، وخصوصاً بعدما طوّرت تكنولوجيا الجيل الخامس للاتصالات اللاسلكية 5G، وبدأت الدول من حول العالم بطلبها. بدأ ترامب وإدارته حملة ضد «هواوي» بإظهارها شركة تقدم خدمات التجسس لصالح الحزب الشيوعي الصيني. منعت إدارة ترامب العديد من البلدان من شراء منظومة الـ5G. ثم وضعت عقوبات على هواتف «هواوي»، يُمنع بموجبها استخدام الشركة لأي خدمة أميركية. ولهذا نجد أن هواتف «هواوي» لا تحوي متجر تطبيقات غوغل ولا خدمة من خدمات أندرويد المتصلة بـ غوغل. المرحلة الثالثة من العقوبات استهدفت صناعة الشرائح الإلكترونية، فـ«هواوي» مثل بقية شركات الهاتف المحمول، تشتري الشرائح اللازمة لصناعة الهواتف من تايوان والولايات المتحدة. لكن ذلك لم يعد ممكناً. ثم، عندما حاولت الصين شراء جهاز EUV الذي تصنعه شركة «ASML» والمختص في صناعة أشباه الموصلات المتقدمة، تدخلت إدارة ترامب، ومنعت حصول الاتفاق. وكل ما لدى الصين اليوم، أجهزة تصنيع من الجيل السابق، تسمى DUV، تستطيع صناعة أشباه موصلات بقياس 28 نانومتراً و14 نانومتراً.
استمرت العقوبات مع إدارة الرئيس الحالي جو بايدن وتوسعت. قبل أقل من عام، فرضت أميركا مجموعتها الشاملة من العقوبات ضد صناعة أشباه الموصلات الصينية. تعهد «الخبراء» يومها بأنّ الإجراءات ستقتل الصناعة أو على الأقل تجمّد تقدّمها التكنولوجي عند رقائق 28 نانومتراً. لكن هاتف «هواوي» الجديد أعاد خلط الأوراق. أثبتت الصين أنّ الجهود الهائلة التي بذلتها الولايات المتحدة على مدار سنوات لتدمير «هواوي» وصناعة أشباه الموصلات الصينية فشلت، ومن دون إعلان ذلك حتى. لم تنشر «هواوي» أي إعلان عن هاتفها الجديد أو مواصفاته. وبحسب «بلومبيرغ»، كان على الخبراء الأميركيين شراء الجهاز وتفكيكه ليجدوا الكارثة. شريحة Kirin 9000s التي يبدو أنّها من صنع شركة أشباه الموصلات الصينية SMIC، وصُنعت باستخدام عملية تصنيع من الجيل الثاني من فئة 7 نانومترات. بكلمات أخرى، طوّر الخبراء الصينيون معدات DUV التي اشتروها منذ زمن من ASML، بحيث أصبح في إمكانها صناعة أشباه موصلات بقياس 7 نانومترات. حتى البرمجيات والهندسة الخاصة بالشريحة هي صينية بالكامل. وهذا أمر بالغ الأهمية: حتى لو توافرت معدات التصنيع، لا يمكن لأي دولة صناعة الشرائح بشكل كامل باستخدام قدراتها فقط. لكن الصين فعلتها. وبطبيعة الحال، لم تكن مصادفة أن يظهر الهاتف في اليوم نفسه الذي زارت فيه وزيرة التجارة الأميركية جينا ريموندو الصين، هي التي سبق أن تعهّدت بـ «إبطاء معدل الابتكار في الصين».
يحتوي هاتف «أيفون 14 برو» على شريحة بدقة 4 نانومترات. ووفق «بلومبيرغ»، يمكن أن تدفع الصين بأجهزة الـ DUV التي في حوزتها، بحيث تصل إلى شرائح بقياس 5 نانومترات. وهو أقصى ما يمكن أن يصل إليه تطوير تلك الأجهزة. لذا، يمكن القول إنّ الصين الآن أصبحت قريبة من خصومها الغربيين، ربّما بفارق بضع سنوات. تبقى المشكلة أنّ الغرب لديه نموذج EUV الجديد، الذي يسمح بصنع أشباه موصلات بقياس 3 نانومترات فيما يمكن أن يصل التطوير إلى أقل من ذلك. وهذه مشكلة للمستقبل القريب. أما حالياً، فأشباه موصلات بقياس 5 نانومترات تضمن للصين صناعة أي جهاز تريده بمواصفات متقدّمة، أي إنّها لم تعد محصورة بصناعة الأجهزة الأكبر حجماً.
لقد حولت الولايات المتحدة «هواوي» إلى شركة متقدمة بشكل كبير عبر العقوبات. والأسوأ من ذلك بالنسبة إليها، أنها جعلت الصين تبني نظاماً بيئياً محلياً متكاملاً لصناعة أشباه الموصلات، ما يعني إجهاض كل الجهود التي بذلتها واشنطن لتوزيع الصناعة عالمياً أوّلاً، ومن ثم محاولة جعلها صناعة محلية أميركية عبر استقدام شركة TSMC التايوانية إلى أميركا. صحيح أنّ هاتف «هواوي» الجديد متفوّق على بعض أهم الهواتف من فئته، إلا أنّ الأمر أبعد من صناعة الهواتف. الحديث هنا عن الأسلحة وتكنولوجيا الفضاء والمركبات وأجهزة الذكاء الاصطناعي والروبوتات. إنّها خسارة كبيرة للولايات المتحدة!