يعتبر موضوع ريادة الأعمال من الأمور المهمة اقتصادياً واجتماعياً. إذ يساهم في التنمية الاقتصادية للدول والمجتمعات. يظن البعض أن موضوع ريادة الأعمال ينحصر في مجموعة من المبدعين الذين يبتكرون منتجاً ما أو خدمة معينة تحل مشكلة عملية للناس الذين سيتحولون إلى زبائن. ولكن الموضوع أعقد من ذلك، عملياً، هذه ليست سوى قمة جبل الجليد. يجب على كل مجتمع يريد لريادة الأعمال أن تتطور وتنمو لديه، وأن ينشئ نظام بيئي متكامل ecosystem يتضمن مجموعة متعددة من العوامل وأنظمة العمل وأنماط التفكير من جهة، ومراكمة التجربة من سنة إلى سنة من جهة أخرى. يجب تغيير بعض القيم الاجتماعية والاقتصادية أيضاً. سنتحدث في هذا المقال عن كيفية إنشاء نظام بيئي لريادة الأعمال داخل مجتمع معين من الصفر تقريباً.
الافتراضات: إننا نريد أن ندخل ريادة الأعمال إلى مجتمع لا يوجد به البنية التحتية لهذا الموضوع. هذا يمثل تحدياً كبيراً.

الأهداف: إنشاء نظام بيئي لريادة الأعمال بشكل تدريجي ضمن مجتمع معين. تدريجياً، لأن هذا الموضوع تراكمي وتعليمي وتعلّمي ولا يمكن إنشاؤه دفعة واحدة بقرار رسمي مثلاً. هناك مراحل تدريبية وتطويرية يكون هدفها ونتيجتها إيجاد تغييرات تتعلق بثقافة المجتمع للأعمال والإنتاج بحيث يصبح اقتصاد المعرفة شائعاً كفكرة ومفهوم.

بداية، لا بد من فهم ما هو النظام البيئي لريادة الأعمال وموقع رواد الأعمال فيه. نعني بالنظام البيئي لريادة الأعمال، أن تتواجد كامل الخدمات التي يحتاجها المجال لينجح وينمو ويثمر وينطلق بشكل طبيعي بدون أي تعمُّل أو صعوبة. ويعني هذا أن تصبح ريادة الأعمال شيئاً معروفاً ومتداولاً ومقبولاً في المجتمع وأنظمة الأعمال والمؤسسات كأي نوع من المؤسسات الأخرى. أن تنشأ علاقة symbiotic بيئية وتكاملية وتفاعلية بين المجتمع ورواد الأعمال. ومن نتائج هذا النظام البيئي هو أن يكون لرائد الأعمال فرصاً كثيرة لتحصيل الإمكانات التي يحتاجها للنجاح من مقبوليّة وتمويل وتدريب ودعم ومشروعية من قبل عائلته ومجتمعه القريب.

وموقع رواد الأعمال هو المحوري في هذه المنظومة. نعم هناك الكثير من الخدمات والمواقع التي تنشأ حول ريادة الأعمال أو تكون نتيجة لها مثل المواد التدريسية والتدريب والجامعات وحاضنات الأعمال ومسرعات الأعمال والمستثمرين والقانونيين، ولكن، يبقى أن دور هؤلاء جميعاً هو مساعدة وخدمة رواد الأعمال. وهذه الرؤية هي أساسية لتوجيه عملية نهضة ثقافة ريادة الأعمال في المجتمع.

الجامعات هي المنشأ والحاضن الأساسي لتعميم مفهوم ريادة الأعمال، لذا يجب على الجامعات أن تكون نقطة البدء، وهذا أمر طبيعي لأن طلاب الجامعات بما يحملونه من حيوية وحماسة وشغف وإبداع، ووجودهم في بيئة تعليمية تنمّي شخصيتهم والحرية التي يتمتعون بها بالإضافة إلى عدم تحمّل قسم كبير منهم مسؤوليات عائلية واجتماعية تجعلهم قادرين على المغامرة والمخاطرة.

أيضاً، طلاب الجامعات سيعملون كسفراء وسيحملون هذا الشغف والمعرفة والتجربة لمجتمعهم الأوسع المكوّن من الأهل والأصدقاء وأرباب العمل الذين قد يصبحون داعمين لهم كمستثمرين وممولين وداعمين للشركات الناشئة، لأنه من المتوقع أن تكون قدراتهم المالية أفضل من طلاب الجامعات. بالتالي، الأهل والأصدقاء وأرباب العمل يمثلون الشريحة الأولى من المستثمرين المعبر عنهم (family، friends and fools). يجب أن تبدأ الجامعات بإنشاء حاضنات ومسرعات أعمال ومسابقات وورش تدريبية لطلابها والمجتمع الأعم – عبر مراكز التعليم المستمر مثلاً – لغرس هذه الثقافة في المجتمع.

للإعلام دوره المهم جداً أيضاً. فالإعلام في العصر الحالي - إذا قام بدوره الواقعي المطلوب بعيداً عن إعلام الإثارة – يمكن أن يتحول لأكبر جامعة في البلد حيث يمكنه تنمية المجتمعات. فالتلفزيون مثلاً يمكن أن يطلق عدة أنواع من البرامج عن ريادة ورواد الأعمال. بعض هذه البرامج يكون عبارة عن دراما تمثيلية عن نجاحات وتجارب رواد الأعمال، وما أكثرها. ومن يدرك تأثير الإعلام يعرف حق المعرفة القدرة الكبيرة للدراما في صناعة الرأي العام وتحفيزه وصناعة القيم والمثل العليا للإنسان كفرد ومجتمع. ستساهم الأعمال الدرامية بكشف وتصوير الواقع الحقيقي لحياة رواد الأعمال وتصوير لحظات الفرح والانتصار، وما سبقها من تعب وتفكير وإبداع وتشابك في العلاقات العملية والاجتماعية، والتي أوصلت إلى الخاتمة. وكشف الواقع هذا هو ما سيجذب الكثير من أفراد المجتمع إلى تقبّل عالم ريادة الأعمال ورواده، بل ودعمهم ومساندتهم ومشاركتهم.

من الأمور الأخرى التي يمكن للإعلام أن يساهم فيها لتعميم تجربة ريادة الأعمال في المجتمع، هو إنشاء برامج مسابقات لرواد الأعمال يمكنهم من أن يستعرضوا مشاريعهم أمام لجنة مستثمرين ليقرروا الاستثمار معهم أو أمام لجنة حكام لانتخاب المشاريع الناجحة. وفئة ثالثة من البرامج هي الـtalk shows، حيث يمكن استضافة رواد الأعمال والمستثمرين للتحدث عن تجاربهم، بالإضافة إلى العديد من أفكار البرامج الأخرى.
إن مثل هذه الأعمال الإعلامية من شأنها أن تعمم ثقافة ريادة الأعمال بين مختلف الشرائح العمرية في المجتمع.

تعديل القوانين التجارية هو أيضاً مدخل أساسي. حيث أن القوانين البيروقراطية تعرقل إنشاء الشركات الصغيرة، وتضعها تحت أكلاف مالية وإدارية بيروقراطية وضريبية سوف تحبط من يحاول إنشاء شركة صغيرة أو شركة ناشئة. يجب تعديل القوانين الإدارية والمحاسبيّة بما يسهل إنشاء هذه الشركات خلال يوم واحد مثلاً (وهذا أمر مطبق في دول عدة). فالمطلوب هو المعلومات الشخصية لأصحاب الشركة والقطاع الذين سيمارسون به أعمالهم فقط. الوزارة المعنية بإعطاء الترخيص لا تحتاج إلى أسماء آبائهم، وأمهاتهم، وأجدادهم، وعمومتهم. كذلك لا بد من منح هذه الشركات تخفيضاً ضريبياً لثلاث سنوات للسماح لها بالنمو في بداية عمرها. بالإضافة إلى السماح لها بالاقتراض وتعديل نسبة الأسهم بشكل سهل وميسر.

تعتبر المباريات والمسابقات جزءاً أساسياً من النظام البيئي لثقافة ريادة الأعمال، حيث إنّ لها عدة أدوار منها :

1- اجتذاب الاستثمارات، إذ يستعرض رواد الأعمال شركاتهم الناشئة وأفكارهم أمام المستثمرين لاجتذاب الاستثمارات المالية.
2- التعرف إلى الأفكار الإبداعية، حيث يتعرف الرواد المستقبليون إلى الأفكار الإبداعية للآخرين وتدفع كل شركة ناشئة لتميز نفسها عن الآخرين عبر تطوير خدمات غير موجودة في الشركات الأخرى.
3- تصحيح المسار، أحياناً تأخذ الحماسة رواد الأعمال إلى تقديم خدمات قد لا يحتاجها السوق أو الزبائن فتأتي المسابقات لِتوجد جواً تفاعلياً بين من يمثل السوق (مستثمر/ زبون محتمل) والشركة الناشئة ليحصلوا على تغذية راجعة تصحّح مسار الشركة.

بالإضافة إلى أنّ هذه المسابقات تثير بيئة حماسية وتفاعلية تشجع الرواد المحتملين على خوض غمار هذا المعترك عندما يشاهدون أفكار الآخرين ونجاحاتهم، أيضاً لا بدّ من إقامة لقاءات تعارفية دورية في مختلف المناطق لتعريف مختلف قطاعات رواد الأعمال إلى بعضهم من المستثمرين والمدربين والاستشاريين والاختصاصيين في المهن المختلفة وطلاب الجامعات وأساتذتها والباحثين الخ...

من المهم أن تكون هذه اللقاءات في مناطق متعددة ويكون هناك نوع من التنظيم الإبداعي، مثلاً كلمة قصيرة لِأحد الخبراء في مجال ريادة الأعمال يتبعها 3 أو 4 عروض سريعة لِأفكار ويتبعها اللقاءات التعارفية غير الرسمية حيث يتعرّف الأشخاص على بعضهم ويتبادلون أرقام الهواتف والبريد الإلكتروني.

أيضاً لا بدّ من مركز معلوماتي يضم كل المعلومات التي قد يحتاجها أي عامل في النظام البيئي، حيث يزود الموقع الإلكتروني بالإضافة إلى توابعه من أنظمة مواقع التواصل الاجتماعي الباحثين والعاملين بكل المعلومات والنشاطات والكتب والإبداعات والتطورات والنجاحات والمطبوعات والمسابقات والشخصيات والجامعات والمدربين والأساتذة والقوانين والوثائق والمواد التدريبية ورزنامة الأنشطة التفاعلية والعلمية والتعارفية .

إنّ نجاح ريادة الأعمال في أي مجتمع يرتكز إلى عدة أسس يجب أن توجد بشكل متكاتف ومتعاضد تشكل بمجملها نظاماً بيئياً تتفاعل مكوناته المختلفة لِتشكل ثقافة مجتمعية مستدامة.

* أستاذ جامعي