في شهر شباط الماضي، وبالتعاون مع عالمة نفس من جامعة «هارفرد»، أجرت شركة المشروبات الأميركية «مولسون كورز» تجربة واسعة النطاق طلبت فيها من ملايين المتابعين مشاهدة مقطع فيديو من إنتاجها قبل نومهم، لقاء عبوات مجانية من مشروبات الشركة. تضمّن هذا المقطع مشاهد لعبوات «كورز» ضمن مناظر طبيعية باعثة للاسترخاء، ونجحت الشركة في إدخال هذه المنتجات إلى أحلام المشاهدين، ضمن ما سمّته تجربة «حضانة الأحلام الموجّهة» (Targeted Dream Incubation). لكن يبدو أن هذه الشركة كانت تتابع عن كثب عمل فريق بحثي متخصّص في دراسة الأحلام في معهد «ماساتشوستس للتكنولوجيا»، الذي كان أوّل من استخدم هذا المصطلح، بالتحديد في ورقة بحثية سابقة في إطار دراسته لإمكانية توجيه الأحلام عبر تقديم إشارات حسّية في الوقت المناسب من النوم للاستفادة منها في تحسين عملية التعلّم وعلاج بعض الاضطرابات النفسية. نشر هذا الفريق، في ما بعد، من ضمن 38 باحثاً في مجال النوم والأحلام، مقالاً حذّروا فيه من خطورة هذه التجارب باعتبارها «منحدراً زلقاً» قد يفتح المجال أمام «الاعتداء» على أحلامنا التي تؤدّي دوراً مركزياً في تشكيل ذاكرتنا وهُويتنا.
لكنّ شركة «كورز» ليست الوحيدة التي تطمح لاستخدام الأحلام كمنصات تسويقية لمنتجاتها، فقد كشف إحصاء لأكثر من 400 شركة تسويق في الولايات المتحدة أن 77% منها ينوي استخدام تقنيات الأحلام في السنوات الثلاث القادمة. مع تجارب حضانة الأحلام، تدشّن شركات التسويق حلقة جديدة في سلسلة استغلال البحث العلمي لاستبدال الأساليب التقليدية في تصميم الإعلانات وتحسين المنتجات والتأثير في السلوك الشرائي للمستهلك.

التسويق العصبيّ

«مع كل ما تثيره بيولوجيا الأعصاب من الإعجاب، فإن الدماغ ليس المكان الذي (يبدأ) فيه السلوك. إنه مجرّد المسار النهائي المشترك الذي تتلاقى من خلاله جميع العوامل ‏(الداخلية والخارجية) وتنتج السلوك». قد يثير كلام عالم الأعصاب الأميركي روبرت سابولسكي، الشعور بأن الإنسان ليس أكثر من «دمية بيو-كيميائية»، تسيّر العوامل المختلفة سلوكها من دون إرادة حرّة منها؛ والواقع أن عدداً من الأدلة يشير إلى أن التفكير الواعي بمفرده مسؤول فقط عن جزء بسيط من عملية اتخاذنا للقرارات. هذا بالضبط ما يجعل من الأساليب التسويقية التقليدية، القائمة على التغذية الراجعة الواعية من المستهلك، غير ذات جدوى. ذلك أن قراراتنا وتفضيلاتنا، أدركنا ذلك أم لا، تُطبخ بجزء كبير منها في مكان آخر، هو اللاوعي.

حين تسأل أحد المستهلكين عن مدى إعجابه بمنتج ما، ستتطلب منه الإجابة عدّة عمليات إدراكية، تبدأ بمعالجة المعلومات الحسّية، ثم إحالتها للمقارنة مع تجارب مرجعيّة مماثلة، وتوقّع الاستفادات المستقبلية، ما يجعل القرار النهائي عُرضة لعدد كبير من الانحيازات المعرفية (كتأثير تأطير السؤال). في المقابل، يمكن لدراسة دماغ المستهلك وقياس الاستجابات البيولوجية والعصبية والنفسية تخطّي العمليات الواعية، وتقييم ردة الفعل اللاواعية تجاه المنتجات. بذلك، لم تنجح تقنيات ما يسمّى بـ«التسويق العصبي» (Neuromarketing) في استبدال الطرق التسويقية التقليدية فحسب، بل تفوّقت حتى على آراء المستهلكين في توقّع السلوك الشرائي.

بدأ الأمر مع تجربة عام 2004 الشهيرة، حين قدّم باحثون في جامعة «إيموري»، مشروبات «كوكا كولا» أو «بيبسي» لأشخاص تم قياس نشاطهم الدماغي في الوقت نفسه عبر جهاز التصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي (fMRI). حين لم تُحدَّد العلامة التجارية لكل مشروب، أظهرت أدمغتهم نشاطاً مشابهاً، لكن عند الكشف عن العلامة التجارية، لاحظ الباحثون نشاطاً لافتاً في مناطق دماغية مرتبطة بالعواطف والذكريات والمعالجة اللاواعية، ما يعني أن مجرّد معرفة العلامة التجارية غيّر كيفية إدراك الدماغ للمشروب.

هذه الدراسة أطلقت الشرارة الأولى لما بدا كأنه عصر جديد في عالم التسويق، تمثّل في طفرة في الدراسات العصبية والنفسية التي اعتمدت على عدد من التقنيات لقياس نشاط المستهلك العصبي والفيزيولوجي، والبناء عليه في القرارات التسويقية. من أبرز هذه التقنيات المستخدمة اليوم:

- تقنيات مسح الدماغ: من أكثر التقنيات استخداماً اليوم في دراسات التسويق، التخطيط الكهربائي للدماغ (EEG)، الذي يقيس النشاط الكهربائي للدماغ من خلال مجسّات توضع على فروة الرأس، والتصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي (fMRI)، الذي يستخدم حقولاً مغناطيسية لتعقّب التغيّرات في جريان الدم في الدماغ، وبالتالي يدل على المناطق النشطة فيه. تعتبر التقنية الثانية أقل سرعة وأعلى تكلفة من الأولى، لكنّها الأكثر دقّة حين يتعلّق الأمر بدراسة مناطق محدّدة بعينها في الدماغ.

في واحدة من الدراسات التي أُجريت على مشاركين استمعوا إلى أغانٍ عشوائية أثناء مراقبة عمل أدمغتهم بجهاز fMRI، تمكّن النشاط الدماغي في منطقة المخطط البطني، المرتبط بنظام المكافأة الدماغي، من توقّع شعبية هذه الأغاني ومستوى مبيعاتها في السنوات الثلاث التالية أكثر مما فعلت تقييمات المشاركين أنفسهم.

- تعقّب العين: تستخدم عدّة تقنيات في تطوير الإعلانات، من بينها نظّارات تتعقّب حركة العين بدقّة عالية، ما يسمح بمعرفة العناصر الجاذبة لانتباه المستخدم. يمكن أيضاً قياس اتساع الحدقة كمؤشر على الاهتمام بالعناصر البصرية، وأيضاً عدد رمشات العين، التي ترتبط بالاستجابة الانفعالية. على سبيل المثال، أظهر تعقّب حركة العين أن وجود صورة طفل في الإعلان تجذب الانتباه، وأن جعل الطفل يوجّه نظره باتجاه أحد عناصر الإعلان تساعد في توجيه انتباه المشاهد إلى ذلك العنصر.

- مراقبة ردّات الفعل الفيزيولوجية: تمّت الاستفادة من مؤشرات أخرى في تقييم استجابة المستهلكين تجاه المنتجات أو الإعلانات، كتحليل تعابير الوجه وخفقان القلب والتنفّس، وقياس درجة موصولية الجلد التي ترتبط بنشاط غدد التعرّق في اليدين، والتي تدل على مستوى الإثارة الناتج من عناصر بصرية كالألوان المختلفة.

هل علينا أن نقلق؟

بين إثارة الإعجاب والقلق، نقف أمام سؤال مفصلي: هل سينتقل المسوّقون من دراسة سلوك المستهلك إلى التحكّم به؟ بعبارة أدقّ، هل يمكن لشركات التسويق أن «تزرع» معلومات في إدراك المستهلك من دون وعي منه بذلك؟

قد تجيبنا إحدى تجارب عام 1993 عن هذا السؤال. في هذه التجربة، تم تقديم سلسلة من الأحرف المتتالية التي تبدو عشوائية أمام المشاركين، وطُلب منهم حفظها، من دون علمهم بوجود مجموعة من القواعد التي يتم إيصالها عبر تلك الأحرف. حين سُئل المشاركون عن تلك القواعد، قالوا إنهم لم يكونوا يعلمون بوجود أي قواعد في الأساس، لكن حين طُلب منهم التخمين، تمكّنوا من تحديد القواعد بشكل صحيح 70% من الوقت. سمّي هذا التأثير بالتعلّم الضمني (Implicit Learning)، وهو ما قد يتم استخدامه في الإعلانات في المستقبل.

لقد بدأت الشركات الكبرى بالفعل بتوظيف علماء أعصاب، من بينها عمالقة التكنولوجيا كـ«غوغل» و«مايكروسوفت» و«أمازون». ووسائل التواصل الاجتماعي مثل «فايسبوك»، ومكبّرات الصوت المنزلية الذكية، وربما في وقت غير بعيد في المستقبل واجهات الدماغ والحاسوب (Brain-Computer Interfaces)... قد تصبح كلها منصات لبث إشارات حسّية توجّه سلوكنا الشرائي ما دون عتبة الوعي.

ما لم يُعمل على ضبط طموحات الشركات الكبرى، قد لا يتطلّب الأمر أكثر من بعض الوقت قبل أن تصبح إعلانات الأحلام، وغيرها من أساليب غزو اللاوعي، أمراً واقعاً، أشبه بتلك التي نشاهدها على منصات التواصل الاجتماعي، لكن مع فارق بسيط: في حالة منصات التواصل الاجتماعي، يوجد زر للتخطّي!