ناجي العلي
وجزيرة إبستين، من كلّ ما قيل عنها، جزيرة غروتيسكيّة تماماً، مرعبة، مخيفة، مفزعة. وما حدث فيها طوال سنوات هو أيضاً مرعب ومخيف ومفزع وغروتيسكيّ. الغروتيسك، في هذه الحالة، كما قال فيكتور هيغو هو القبيح، قبحه مركّب أو مشوّه، شنيع وكريه. ثم في تعريفاتٍ أخرى هو المرعب، وهو الدرجة القصوى للاستلاب والدرجة القصوى للعنف، وهو الهجين، والمسخ، والأحاسيس المفزعة. عالم شيطاني مجنون، إليه تعود الانفعالات، العيوب والجرائم. إنه الذي يصبح داعراً وشهوانياً، زاحفاً شرهاً مفسداً. (حديثنا هنا عن نوع من الغروتيسك هو غروتيسك الرعب أو ما يحيل إليه، فيما يوجد تصنيفات ودراسات أخرى كثيرة عنه).
يروي فرانسوا رابليه في روايتيه «غارغانتوا» و «بانتاغرويل» قصة الأب والابن الغريبين الضخمين، وكِلا الاسمين يُرجعان إلى دلالة قدحية للشراهة والنهم، وكلاهما، أي الأب والابن، يعيشان بالأسفل المادّي الجسدي. حين كتب ميخائيل باختين «أعمال فرانسوا رابليه والثقافة الشعبية في العصر الوسيط وإبان عصر النهضة»، أسرف أيضاً في وصف الفم المفتوح شديد الاتساع واللسان المتدلي والكرش العرمرم. كل هذا الوصف الغروتيسكي يتبلور في عبارات الشتم والتفاحش والابتذال، كما تجلّت في صور المخلوقات الشوهاء، والمسوخ، وكلّ ما هو هجين. درس باختين الغروتيسك في أعمال رابليه انطلاقاً من كرنفال القرون الوسطى، الذي يجسّد الثقافة الجماهيريّة التي تتّسم بالانحلال الجماعيّ، إضافة إلى السكر المفرط والعربدة والفحش الداعر والعنف القاتل.
إنّ الأرقام في أعمال رابليه هي التي تؤكّد البعد الغروتيسكي، فلتربية الابن كان أبواه بحاجة حليب 17900 بقرة، وفي وليمة ولادته نُحر 367000 عجل للضيوف، وثمة 260418 شخصاً غرقوا في البول، و 13122 شخصاً قُتلوا في بستان الدير، وهكذا. غروتيسكيّة الأرقام هذه تتكرّر اليوم في نشرات الأخبار وتقارير الصحف العالمية وبيانات المنظمات الدولية والإنسانيّة وهيئات الإغاثة وغيرها، سواء أكان ذلك لنقل عدد أشخاص قُتِلوا أم عدد مَن تورّط بفضيحة أو جريمة إنسانية. فأسماء المتورطين مع إبستين موجودة في 900 صفحة حسب موقعٍ غروتيسكيّ، وفي مكانٍ آخر، غروتيسكيّ أيضاً، فإنّ الأسماء هي 9000 أو 900 اسم، أما الذين قضوا هناك، في الجزيرة، أو عُنِّفوا وعُذِّبوا، فليس لهم عدد بعد، ولا رقم يشير إليهم. تنسحب غروتيسكيّة الأرقام هذه إلى كلّ شيءٍ آخر في عالمٍ صار نفسه رقمياً، يقوم على الأرقام، ولا يحفل بسواها.
إنّ القوالب الغروتيسكيّة منذ بدأت حتّى اللحظة، تكرّر نفسها، لكن بأشكال أخرى طبيعيّة تماماً. فالمسخ، أي الكائن المسيخ، الذي كان ينتقل من حالٍ إلى أخرى بهيئته الجسمانية، لم يعد تحقّق شرط التحوّل فيه إجبارياً أو ضرورياً، إذ يمكن أن يكون كلّ ما كان قبيحاً أو شاذ الصورة، حسب ابن منظور. يعني ذلك أنّ ميراندا، بطلة شكسبير، لن ترى في العالَم الجديد كائنات غريبة كما قلنا، مثلما حدث في الجزيرة، بل سوف ترى كائنات طبيعية، واقعية، بشرطها - هيئتها وشكلها - الإنسانيّ الخارجي، لكنّ كل ما فيها، من الداخل، يُخالف ذلك. هذا الخلل في تركيبة الجسد الغروتيسكيّ لم يعد شرطاً ضرورياً اليوم إذاً، بل انتقل ليصبح في التركيبة الداخليّة. إنّ المزج البشع للغضروفيات ومناطيات الأعضاء والبنى الناعمة، الذي كان يتحقق بالانحلال خارجاً، أي بالهيئة الخارجية، لم يعد ذا ضرورة كبيرة. الفقمازير الرخوية (من فقمة وخنازير) التي صوّرها ناجي العلي في رسوماته، رمزاً للأنظمة والمؤسسات السلطوية والسياسية والاقتصادية، ووضعها عاريةً تماماً من ملابسها وأقنعتها كالمخلوقات الرخوية التي لا تلبس شيئاً ولا يسترها شيء، لم يعد ثمة داعٍ لتصويرها اليوم على النحو نفسه. إنّ الرعب الذي تبثّه ويصدر عنها لم يعد مرتبطاً بالشكل الخارجيّ الذي اختاره العلي لها، لا بتقزيمها ولا مسخها ولا عملقتها، بل هو جوّاني، قد تخفيه توكسيدو وربطة عنق، أو رداء قاضٍ، أو رئيس، أو بيت «أبيض»، أو كيان استعماري استيطاني قام على أرض سرقها وقتل أهلها يقول إنه «الديموقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط»، فيما يحاول إبادة مدينة كاملة. لذا، إنّ الرعب السياسي والسلطوي لا يعود مرتبطاً بتلك الفقمازير، إنما بهيئاتٍ «إنسانيّة»، الشكل الخارجيّ طبيعيّ وواقعيّ، «إنسانيّ»، ولكنه يستطيع، بهيئته هذه، بثّ الرعب والفزع.
كذلك إنّ الغروتيسكيّة، في واحدٍ من قوالبها، تتحقّق بالتألية، أي المَكننة. المكننة الإنسانيّة أو غروتيسكيّة البدلة العسكرية أو بدلة المكتب أو الوظيفة. المكننة هذه هي صورة القرن الحاليّ، سواء مع إيلون ماسك أو مارك زوكربيرغ أو غيرهما. يمتدّ ذلك إلى المحاولات المستميتة لصنع روبوت إنسانيّ، أي روبوت له جسد إنساني، وجه وجلد طبيعيان، وتجاعيد وتغضّنات، وابتسامات وضحكات وربما بكاء. تتحقق الغروتيسكيّة هنا بالقلب، بالعكس: القاتل يقود الدركي إلى المشنقة، الإنسان يجرّ الحقيبة على ظهره ويتبعه الحمار ويقرعه بالعصا، الآلة تخرق شروطها كي تصبح إنساناً، والإنسان يُمكنَن.
يصبح أبطال رابليه في مطلع عصر النهضة، في هذه الحالة، هم أبطال القرن الحادي والعشرين. إنّ كرنفال القرون الوسطى هو نفسه كرنفال القرن الحالي. لكنّ الأخير أكثر عنفاً، بل هو «الدرجة القصوى للعنف»، وأبطال القرن هذا يعيشون أيضاً، مثل «غارغانتوا» و «بانتاغرويل» بالأسفل المادّي الجسدي، على جزيرة إبستين. لكنّ هيئتهم طبيعيّة، ليسوا مسوخاً ولا كائنات هجينة، أجسادهم واقعيّة تماماً.
بذلك يصير لزاماً على ميراندا، عندما تخطو خطوتها الأولى في «العالم الجديد» أن تقول له كلّه: «كُن من الرعبِ أقلّه».