صار «زريف الطول» كغناء، يشكّل قالباً قائماً بذاته ولذاته، متفرداً في الغناء الشعبي حتى صار الغناء نفسه يُعرف به ومن أجله، واستدعى عدداً لا بأس به من الدراسات الموسيقيّة حوله. لكنّ الفضل، حتماً، يرجع إلى ذلك الشاب الأسطوريّ من الحكاية الفلسطينيّة، الأسطوريّة بدورها. الشاب الذي اخترق حدود ما هو طبيعيّ، أو ما هو بشريّ. ويكاد، إلى حدّ ما، يشبه هوميروس، لغز اليونان وشاعرها، لكنّ هوميروس غنّى عن الناس، أما «زريف الطول» فقد جعل الناس يغنّونه.إلّا أنّ غناءه، أو ما غُنِّي عنه، في حدود ما سمعنا كلّنا وشاهدنا، هو غناء «دبكة»، وغناء رقص. مع ذلك، فإنّ الحكاية، في الأصل، بكائيّة من بكائيّات فلسطين، وفيها تكمن فجيعتها، وذلك الجذر المأساوي لحركة التاريخ فيها، فيها تكمن مأساتها وعويلها وبكاؤها الحاد، وليس، على الإطلاق، الرقص والدبكة.
لا نخوض هنا في أي حديث عن القوالب الموسيقية والغنائية الشعبية بل نرجع إلى الحكاية كما أملتها الذاكرة الفلسطينيّة الجمعيّة منذ الانتداب البريطاني وحتى هذه اللحظة. في الحكاية الفلسطينية، صار «زريف الطول» «ظاهرة» لكنها مبهمة، وقد أُسقطت على مختلف مراحل التاريخ الفلسطيني وشخوصه. وتمّ كذلك تطويع هذه الشخصية الأسطورية طوال ثلاثة أرباع قرن أو أكثر من التاريخ الفلسطيني عبر قصص وحكايات وأغانٍ، تقف، لا على سرد الحكاية، إنما على ليّها وزحزحتها من مكانٍ إلى مكان، ومن زمانٍ إلى زمان، حتى صارت أسطورة، أو جزءاً راسخاً من الأطلس الفلسطيني الذي لا يمكن عمل إلمامة له إلا «بزريف الطول»، الإعجازيّ، والماضي الحيّ، أو الماضي الحاضر في الراهن، والذي سوف يبقى راهناً، ما دامت ثمة عينان لفلسطينيٍّ يبكي، أو صوت أنين لفلسطينيّ يتألّم.
ثمة حكايات كثيرة، شائكة، عن «زريف (ظريف) الطول»، تنطلق إشكاليتها من التسمية نفسها: زريف أم ظريف الطول؟ يرجع البعض بالاسم إلى الظرف والظرافة، ومدلولها الكياسة والجمال في طول الجسم، ويرى آخرون أنّ زريف الطول مشتقة من زرف الطول أي زاد فيه، وهو لقب يطلق على المعشوق أو المعشوقة الممشوقة القوام، مع ميل إلى النحافة قليلاً. ويُرى أنّ زريف مشتقة من «زرافة» المتميزة بطول العنق، واحدة من أهم الصفات التي يميزها العاشق الريفي في المحبوب: «يا زريف الطول من الحارة مرق، والعنق شبرين وهيك الله خلق». «زريف الطول»، مثل أسطورة جلجامش، لا نعرف لها مؤلفاً، ولا ملحناً. ومثل جلجامش، فإنّ «زريف الطول» في واحدة من السرديّات القديمة لقصته، قد يكون نصف بشري ونصف إله.
«عثر المزارع نضال أبو عيد من خان يونس في غزة، السنة الماضية، وهو يحرث أرضه، على تمثال حجري لإلهة كنعانية قديمة، يعود تاريخه إلى أواخر العصر البرونزي. وأشار علماء الآثار الفلسطينيين إلى أنه رأس آلهة الحرب «عناة» ويعود إلى حوالى 4500 سنة». إنّ القصة الأولى لـ«زريف»، هي أنه شاب فلسطيني يُعرف بلقبه ولا نعرف له اسماً، أحبّ فتاة فلسطينية اسمها «عناة»، (ليس مصادفة أنه اسم الإلهة الذي يُفسَّر بينابيع المياه أو عيونها) إذ كان «زريف الطول» و«عناة» يلتقيان دائماً عند عين الماء، ووسط الكروم، مختبئين عن أعين أهل عناة أو القرية. وبسبب حبها للـ«زريف»، رفضت عناة كل خطّابها، وقد وشى الوشاة بها وبالـ«زريف» لأهلها، فحبسوها في البيت ومنعوها عن «زريف الطول»، وحاولوا أذيته. ومرضت «عناة» في محبسها، فقرر «زريف الطول» الرحيل عن القرية لإنقاذها، إلا أنّ ألم «عناة» ازداد، وخرجت من محبس أهلها تُنشد:
«يا زريف الطول وقّف ت قلّك
رايح ع الغربة وبلادك أحسن لك
خايف يا زريف تروح وتتملّك
وتعاشر الغير وتنساني أنا».
هذه القصة الأولى من السرديات الفلسطينية الكثيرة عن زريف الطول، ومهما كانت فإنها تبقى، في صيغتها هذه، فجيعة لـ«عناة» و«زريف الطول»، ومأساة لإلهة وإله الريف الفلسطيني في زمنه السحريّ، ولا يمكن أنّ أحداً سمعها قد رقص أو دبك على آلام «عناة» وعشيقها.
القصة الثانية لـ«زريف الطول» من السرديّات الفلسطينية تنزاح من زمن الريف الفلسطينيّ بحركته التاريخية الطبيعية (ويبدو أنها في الحقبة العثمانية) إلى زمن الانتداب البريطاني. وتقول الحكاية إنّ الشاب الفلسطيني «زريف الطول» كان يحمل اسماً فلسطينياً، عُمِّم هذا الاسم في روايات أخرى ليصير «فلسطيني»، أي إنّ الشاب اسمه «فلسطيني» لكنه عُرف بزريف الطول بسبب طوله. وأقام هذا الشاب في قرية كان غريباً عنها، لسببٍ ما، وعمل نجاراً عند شخص اسمه أبو حسن، ولم يكن يعرف ماذا يفعل بأجره الذي يتقاضاه كل أسبوع. كل فتيات القرية كنّ يحاولن التقرب منه، وحاولت زوجة المختار تزويجه لابنتها، وزوجة خطيب المسجد كذلك، إلى حد أن الخطيب نفسه لمّح إليه في خطبة يوم الجمعة، لكنّ «زريف الطول» لم يكن على اهتمام بأمور مثل هذه، فالإرهاب البريطاني يشتدّ، والعصابات الصهيونية تمارس إرهابها معه. ودخلت هذه العصابات على القرية واستشهد ثلاثة شبان، فغادرها «زريف الطول» ورجع إليها بعد أربعة أيام، في الليل، من دون أن يراه أحد. ثم عادت العصابات الصهيونية بعد شهر لتقتحم القرية وتبيد سكانها، فوزع «زريف الطول» خمس بنادق اشتراها بماله الخاص على الشبان، وقتلوا ستة أشخاص من العصابات الصهيونية. وعادت العصابات لتنتقم، فاندلعت معركة كبيرة في كروم التفاح واستُشهد عدد كبير من أبناء القرية. حين جمع أهل القرية جثث الشهداء لم يجدوا زريف الطول، ولم يكن بين الأحياء. لقد اختفى، بعد أن قتل أكثر من عشرين شخصاً وأنقذ بعض شباب القرية. مرت الأيام، وزريف الطول مختفٍ، وأهالي القرية ينادونه:
«يا زريف الطول وين رايح تروح
بقلب بلادنا تعبّقت الجروح
يا زريف الطول وقّف ت قلّك
رايح ع الغربة وفلسطين أحسن لك».
لكنّ «زريف الطول» في هذه الرواية اختفى. ليست جثته بين الجثث وليس جسده بين الأجساد، وإن كان أهل القرية ينادون عليه بعد أيام من الغياب فإنهم حتماً ينادونه بيأس، وببكاء. وحتماً، تبكيه زوجة المختار والمختار وزوجة خطيب المسجد والخطيب، وبنات القرية كلهن. هذا البكاء يشبه، كما أتخيّله، بكاء الندّابات على كُليب، والزير سالم (المختار، أو خطيب المسجد) يمرّ بين دموعهنّ وينشد: «ابكين سيّد قومه واندبنه». وتئنّ النساء، وتبكين، كما لو أنه لم يعد ثمة في العالم غير البكاء، وأي بكاء؟ إنه بكاء «زريف الطول»، والذي اسمه في الأصل: «فلسطيني».
هل تنتهي حكايات «زريف الطول»؟ بالتأكيد لا. يمكن أن نتخيّل أنّ الشطر الأول من البكائيّة قد قيل، و«زريف الطول» قريب من القائل لكنه لا يسمع تماماً إثر أصوات القصف والإبادة الجماعية التي ترتكبها العصابات الصهيونية بحق الفلسطينيين. نجا «زريف الطول»، بمعجزة، من مذبحة الطنطورة، أو من مذبحة دير ياسين، أو من أي مذبحة ارتُكبت بحق الفلسطينيين. إنّ المناداة، في الشطر الأول من البكائية، هدفها أن تلفت انتباهه: «رايح ع الغربة وبلادك أحسن لك». لكنّ البلاد كانت تُدمّر، وكان «زريف الطول» لا يسمع شيئاً. بعد أصوات الرصاص، والقصف، يرين صمتٌ ذابح على الجسد الإنساني وكل الحواس التي فيه.
أُخرج أبوي من فلسطين، من يافا الحلوة التي في فلسطين، وعمره سنة واحدة، من بيتٍ عامر كان لجدّي في حي من أحياء يافا. وحين روى أبوي القصة كلها قبل أن يموت قال إنهم قد وضعوه في حطّة (كوفية أو شماخ أو شال ستّي) وساروا به من فلسطين إلى دمشق. لجدّي الثاني بيت في نابلس الحلوة في فلسطين، أُخرِج منه مع ستّي وخالي الأكبر (وُلد أواخر الثلاثينيات)، وساروا من نابلس إلى دمشق أيضاً. ما الذي كانوا يسمعونه طوال الطريق؟
كان ثمة آخرون ينادون، من مكانٍ ما في فلسطين: «يا زريف الطول وقّت ت قلّك/ رايح ع الغربة»، وتعصف غصةٌ بالحلق، ويعصف المكان الفلسطينيّ، وتنزف الأرض، وينزف الناس.
إنّ «زريف الطويل»، في خرق الحياة الطبيعيّة التي كانت للفلسطينيين في بلدهم، هو اللاجئ الفلسطينيّ في الشتات (دياسبورا) من العالم.
إنّ الفقدان الذي تكبّده «زريف الطول»، حين أخرجوه من فلسطين، ليس فقداناً للمنزل (البيت) بقيمه المادية والنفسية والعاطفية، إنما هو فقدان وخسارة من نوع أساسي وجوهري يفتعل داخلياً اضطراباً يُسمّى بتوهان الحنين، (Nostalgic Disorientation)، ويخلق أحاسيس عميقة بالفجوة، بالشرخ، بالثقب، بالغياب، وصعوبة الثقة في وجود كينونة الإنسان، وبناءً على ذلك لا يستطيع «زريف الطول» في بلاد اللجوء فهم الحياة، وهذه الأحاسيس تأخذه لنوع استثنائي من الشعور بأنه كائن غير حي.
«زريف الطول» «الجديد» من السرديّة الفلسطينيّة هو اللاجئ، الذي يحسّ بأنه «كائن غير حي» لأنه انتُزع من وجوده بكل شروطه الإنسانية، ولأنه سمع وهو يُطرَد من أرضه بكاءً غير واضح ينادي: «يا زريف الطول وقّف ت قلّك/ رايح ع الغربة وبلادك أحسن لك». ولم يستطع أن يردّ على البكاء غير المفهوم إلا ببكاء آخر، بكاء ما يزال مستمراً منذ ثلاثة أرباع قرن، ولا يمكن أن يتحوّل إلى حلقة دبكة، أو رقصة شعبيّة. والذي نادى عام 1948، ظلّ ينادي، واللاجئ - «زريف الطول»- غودو الانتظار الفلسطيني، غودو غصباً عنه. الأونروا (وكالة الغوث لتشغيل اللاجئين الفلسطينيين) والصليب والأحمر وهيئة الأمم وكلّ الأشياء الأخرى في العالم، جعلت منه غودو. والفلسطينيّ في الداخل يبكيه «يا زريف الطول»، و«زريف الطول» يُعطى كرت مؤن وبطاقات إعاشة وأكياس طحين وربطة عنق من دون قميص أو بنطال كي يظهر أمام كاميرات العالم مبتسماً وبأبهى صورة. «زريف الطول» هو غودو الفلسطيني، وليس بإرادةٍ أو قرار منه لا يظهر أو يعود، بل لأنّ العالم كلّه وقف ضدّ «طوله» كلّه ومنعه من العودة إلى الأرض التي أحبّ فيها «عناة»، والأرض التي أحبّته فيها ابنة المختار وابنة خطيب المسجد، الأرض التي أُخرِج منها وسمع صوتاً بكّاءً يناديه: «يا زريف الطول وقّف ت قلّك/ رايح ع الغربة؟»، وينقطع الصوت هنا، وتنقطع الدنيا، ويحسّ الحيّ أنه «كائن غير حي» وترتبط حياته بتوهان الحنين، ينتقل منه إلى أبنائه ومن أبنائه إلى أحفاده، هكذا إلى الفلسطينيّ الرضيع الذي ينمو الآن، وتطول قامته: كل سنتيمتراً بآلاف المواجع والفجائع. ويبدو أنّ اللاجئ الفلسطيني إنما يستمدّ سمعه من ذلك الصوت الذي يشوّش العالم عليه:
«يا زريف الطول يوم ال غرّبوك
شعر راسي شاب والظهر انحنى
يا «زريف الطول» متغرّب عن الأوطان
وغيابك عنا ملّا القلب أحزان
ارجع لإمّك وارجع للحنان
ما تلقى الحنّية غير في بلادنا».
الكلمات البكّاءة تتطلّب لحناً بكّاءً، فالفلسطينيّ بُكاء في بكاء في بكاء، وإنما هو مخلوق من دمع، ومن صوتٍ ينادي ويُشوَّش عليه، و«زريف الطول» هو المعادل الموضوعي للألم الفلسطيني، للغياب الفلسطيني، ولغودو الفلسطيني الذي يمنعونه من العودة. إن كان لزريف الطول أن يروي قصته فسوف تكون:
«الاسم: فلسطيني
اللقب: زريف الطول
البلد: فلسطين
تاريخ الولادة: كل الزمن الفلسطيني.
كنتُ على أطراف الوادي - ووديان البلد كثيرة - أتكئ على جذع زيتونة، بعد أن أنهيت حراثة الأرض، وكان عليّ أن أرجع إلى دكّان النجارة، قبل مغيب الشمس. حملتُ المنجل على كتفي، وعقدت العزم على السير إلى قلب القرية، مبتعداً عن الوادي. ما إن قطعت مسافة خطوتين، رأيتُ من بعيد دخاناً يتصاعد من بيت أبي أحمد. كان الرجل قد فقد بيته بأول قذيفة مدفعية، وفي تلك اللحظة، لم يعد أحد يعرف ما الذي يجري. قالوا: دخلوا. وقالوا: يجب أن تخرجوا، فإن دخلوا سوف يدخلون على جثثكم. ونادى أبو صالح من أطراف الوادي: مظلّش خرطوش. فذهبتُ إليه. كان على مقربة منه سالم وفؤاد وعبد الكريم، أخذتُ ذخيرة واحدٍ منهم وقدّمتها لأبي صالح. كان يجب أن أعود، إلا أنني وقفت في مكاني، تائهاً في الملكوت. وقبل أن ألتفت، كان صدر أبي صالح قد تشظّى، فابتعدت.
سمعت صوتاً بعيداً يُنادي، وبدا أنّ الصوت بكاء، ولم أسمعه لأنّ دماً كان قد تجمّد في أذنيّ. حاولت أن أرجع، لكنّ المدرّعة سبقتني إلى القرية. كنتُ أحاول أن أسمع الصوت، لكنّ حجارةً كانت في أذنيّ، وابتعدت، كان عليّ أن أغذّ السير بعيداً في الوادي، وأن أتفرج من بعيد على المحرقة، وبعد ذلك بيومٍ واحد، تغيّر اسمي. كان على الناس من أجل أن ينادوني، لا أن يلفظوا اسمي، بل أن يقولوا: يا لاجئ. «لاجئون»، لم نكن هكذا ننظر إلى أنفسنا في تلك الظروف القلقة المحمومة، بعد حينٍ فقط، ستقفز هذه الكلمة إلى المعجم لتصبح هويّتنا التاريخيّة وإطارنا الاجتماعيّ، تماماً مثل كلمات الوطن السليب والفردوس المفقود. وفكّرت، وأنا أبتعد، أيّ شيءٍ قد حصل للعالم فتغيّر؟ وقالوا: إنها النكبة. وعرفتُ أنني من جيلها وشهودها وضحاياها، النكبة، إنها نكبة فلسطين، فابتعدت أكثر في الوادي، ابتعدت أكثر، إلا أنني أذكر، مهما بدا عليّ من عجز، إنني أتذكر، ولا يمكن لأي قوّة في الكون أن تنكر هذه الذاكرة، أذكر يوماً كنتُ بيافا! أذكر يوماً كنتُ بيافا! أذكر يوماً كنتُ بيافا! وبعد ذلك، قالوا عبر الإذاعات إنّ 774 قرية ومدينة فلسطينية، قد وقعت تحت الاحتلال، وإنني لم أعد فلسطينياً، ذلك سقط في السجلّات، ومنذ ذلك اليوم، سوف أرفع كرت المؤن عالياً، وأقول: أنا لاجئ. من خيمة إلى خيمة، وكنا قد عرفنا أنّ لعبةً ما قد تمّت، وصغناها على هذا النحو: «هي الأمم المتحدة ليش عملت وكالة الغوث؟ مش عشان اللاجئين المقطعين اللي زينا! بس عاد لحتى تغيث اللاجئين لازم يكون في لاجئين، عشان هيك صوّتت لإسرائيل، عشان تعملنا لاجئين وبعدها تدير بالها علينا». وسألت: أأنا فلسطينيّ أيضاً؟ووجدتُ نفسي في المخيّم. وكما هي وديان البلاد كثيرة، فالمخيّمات كثيرة. وصرتُ أسأل: أأنا فلسطينيّ أيضاً؟كانت سنوات كثيرة قد مرّت على النكبة. «عناة»، إنني أذكر لعبنا معاً، أتذكّرك كما أتذكّر نفسي. فهل متُّ؟ هل ضعت؟ إنّ أحداً لم يعد يذكرني، والآن، عجوزاً، أسمع الصوت الذي ينادي، فأعرف أنني لاجئ وحيّ، لكنني أحس أنني غير حي. حتى المخيّم، أخرجوني منه، ولم يكن من وادٍ قريب أبتعد إليه. إنني أذكر أنني حيّ، أو أنني يجب أن أكون حياً، ولكن، كيف ذلك، أذكر يوماً كنتُ بيافا، أذكر يوماً كنتُ بيافا، وأذكر أني على جذع الزيتونة اتّكأت، والمنجل على كتفي، فما الذي غيّر العالم؟ إنني أسمع الصوت، لكنني لستُ بيافا، لستُ في فلسطين.
أنا كنت، ووجدتُ نفسي لاجئاً. وأذكر: وضعوا على فمي السلاسل. ربطوا يديّ بصخرة الموتى، وقالوا: أنتَ قاتل. وأذكر: أخذوا طعامي والملابس والبيارق ورموني في زنزانة الموتى وقالوا: أنتَ سارق. وأذكر: طردوني من كلّ المرافئ، أخذوا حبيبتي الصغيرة ثمّ قالوا: أنتَ لاجئ. وأذكر، ولا يمكن لقوّة في الأرض أن تنكر هذه الذاكرة: أذكر يوماً كنتُ بيافا، أذكر يوماً كنتُ بيافا، أذكر يوماً كنتُ بيافا. كما أذكر اسمي: فلسطينيّ.
وأسمع صوت البكاء، أسمع الصوت الباكي الذي يناديني: «يا زريف الطول» وقّف ت قلّك/ رايح ع الغربة فلسطين أحسن لك. وأعرف أنها أحسن لي، لكن مَن يُعيدني؟».