غالباً ما يسبق شبح المنع وصول بعض الأفلام إلى شاشة العرض في الوطن العربي. وعلى قاعدة كل ما هو محجوبٌ مرغوبُ، يساهم المنع في تعزيز اهتمام الجمهور بالفيلم الممنوع في حين أن الفيلم الذي يجري منعه عادةً لا يستحق كل تلك الجلبة حوله، بل لولا منعه لكان (الفيلم) كالشبح، يمر مرور الكرام، بدون أن يهتم به أحد. ما حدث في بعض الدول في الوطن العربي مع فيلم «باربي» هو تكرار السيناريو نفسه: المنع. خيّم شبح المنع على فيلم «باربي» في لبنان والجزائر وكاد أن يُمنع في السعودية ومصر، بقرارٍ سبّب جدلاً واسعاً ما زال مستمراً حتى كتابة هذه السطور، بدون شرحٍ وافٍ لأسباب هذا المنع.

الفيلم الممنوع ، يتناول شخصية «باربي»، وهي الدمية الشهيرة، بل الأشهر، المخصصة للفتيات الصغيرات. «باربي» تعيش في عالم وردي جميل، لا تشوبه شائبة، وهو عالم يمكن أن نعتبره موازياً للعالم الحقيقي. وفي ذلك العالم يعيش الجنسان (الذكر والأنثى) –ظاهرياً- في وئام وسلام. كلٌّ منهما له سيناريو روتيني ثابت، نظام متين ودقيق، يُبقي عالمهما متوازناً. لكنّ سؤالاً وجودياً بسيطاً عن الموت نزع عن ذلك العالم سلامه وكذلك عن بطلته «باربي»، فتدمع عينها وتخرج إلى العالم الحقيقي باحثةً عن حلول. ستكتشف «باربي» فور توغلها في العالم الحقيقي زيف عالمها الوردي حيث يعيش فيه الرجل والمرأة في تناغم نمطي، وستدرك حقيقة العالم الذكوري القاسية.
قد يعطي الملخّص السابق صورة إيجابية عن الفيلم، أو عما يحاول الفيلم –كما يدّعي- أن يقدمه، متستراً وراء لافتة كبيرة تخبرنا بأنه فيلم نسوي للغاية، ولكن خلف رحلة البطلة هذه في اكتشاف الذات وكشف ذكورية عالمنا لنا تختبئ الكثير من السلع القديمة المعاد تدويرها، والمكاسب المادية الحالية والمستقبلية، والتي لا تهتم في جوهرها بأي قضية غير الربح وجني الأموال.
لنعد إلى الظهور الأول لشخصية «باربي». لقد خرجت أول دمية لـ«باربي» عام 1959 من إنتاج شركة «ماتيل» (Mattel)، من تصميم روث هاندلر التي تملك الشركة رفقة زوجها. دمية «باربي» تصور شابة جميلة بشعرها الأصفر أو الأسود، وجسد ممشوق وملامح جميلة، وهي تجسيد للجمال المثالي، فهي تكمل معاييره بل تمثل صورة عن «الجميلة» منذ ذلك الوقت. ستبقى تلك الشقراء الطويلة والنحيفة هي الصورة النمطية الثابتة التي ستأتي إلى مخيلتنا عندما نسمع اسم «باربي» بالرغم من النسخات المستحدثة لها، أي ستبقى «باربي» على شاكلة مارغو روبي الممثلة التي لعبت دورها في الفيلم، مهما تجسّدت على هيئات وأشكال وأعراق ومقاييس مختلفة قد أتت جميعها تحت ضغط الحركات النسوية ومطالبتها بكسر مركزية «الجمال» وأحاديته، وطبعاً تحت تقلبات السوق واتساع رقعة البيع والطلب منذ الخمسينيات إلى اليوم.
لا يقل الظهور الجديد لـ«باربي» الفيلم، أهمية عن ظهورها الأول كـ«باربي» الدمية، على الأقل بالنسبة إلى شركة «ماتيل» ومبيعاتها. فالظهور السينمائي لـ«باربي» يأتي في شكل نسوي ثوري، يهدف، ظاهرياً، إلى هدم كل الصور النمطية التي فرضها المجتمع على المرأة بنبرة عالية واثقة، كما يهدف إلى هدم كل الصور النمطية التي فرضتها شركة «ماتيل» نفسها ولكن على استيحاء وبخجلٍ. لا يجب أن ننسى أن شركة «ماتيل»، التي تمتلك حقوق الملكية الفكرية لشخصيتي «باربي» و«كين» (حبيبها وهو الدمية الذكر)، من المشاركين في إنتاج الفيلم، بل يمكن استشعار سيطرتها التامة على المنتج النهائي لأن الفيلم، في النهاية، يخدم المنتج الأساسي للشركة، وهو الدمية، ويساهم في تعزيز مبيعاتها أكثر مما يخدم قضيته الأساسية التي يدّعي ترويجها والدفاع عنها.
فإذاً، تنتقل «باربي» من عرش الجمال المثالي إلى أرض الواقع بحثاً عن الفتاة التي تمتلكها، أي صاحبة الدمية، علّها تجد سبباً للحزن الذي أصابها، لتكتشف أن صاحبتها أو الفتاة التي تمتلكها، هي سيدة تعمل في شركة «ماتيل»، وأنها تعاني بدورها من أزمة وجودية؛ فهي تشعر بالفشل الوظيفي وعلاقتها بابنتها متوترة، فلا استطاعت تحقيق النجاح الفردي ولا العائلي. إن انتقال «باربي» و«كين» إلى أرض الواقع، يمثل في الحقيقة مرآة لمجتمعنا، ففي هذا الفصل من الفيلم هناك بضعة مشاهد سريعة الإيقاع تؤكد مراراً وتكراراً على فكرة سيطرة الرجال على العالم، ونظرتهم الشهوانية الدائمة إلى النساء، وهي صور واقعية ولكن بالرغم من هذه الحقيقة، فقد عالج الفيلم هذا الموضوع بشكل تقليدي بحت، خطابي ومباشر، ومن ثم إن إيقاع المشاهد السريع يضيف شعوراً بأن الفيلم ما هو سوى وجبة سامة جاهزة للضيوف/للجمهور. فالتسليع الذي يقدمه الفيلم لا يقتصر على الخُطَب المباشرة، لكن في نظرته إلى ثنائية الرجل والمرأة في الأساس. فعلى خطى «باربي»، يحذو «كين»حذوها ويخرج إلى العالم الحقيقي، ليكتشف أن الذكورية تتحكم في كل مفاصل الحياة، وعلى سيطرة الرجال على كل شيء، ليقرر على إثرها أن ينقل هذا التحكم وهذه السيطرة إلى عالمه. هنا يقدم الفيلم ما يشبه المسرحية الهزلية، بقناعةٍ أنه يوظفها درامياً من خلال عرضه لمجموعة من الدمى قريبة من الأطفال تحاول فهم عالمها وذواتها... لكن هذا التوظيف الدرامي لا يخدم قضية الفيلم في أي حال من الأحوال، بل يقدم صورة انفعالية، شعبوية، ركيزتها أن الرجل بطبيعته هو عدو للمرأة.
يرصد فيلم «باربي» نموذج الذكورية من خلال «كين» حيث الذكورية في الأساس لا تهدف إلى السيطرة على النساء بقدر ما تهدف إلى رغبة الرجال في أن يأسروا النساء، وهي نظرة قاصرة للذكورية وانتقاء وجه واحد من بين مئات الأوجه للذكورية، التي يمر الفيلم على بعضها مرور الكرام، دون أن يتعمق فيها خوفاً من إضفاء طابع الكآبة عليه على الأغلب. فالفيلم ينتقي بعناية آخذاً من الأبعاد التجارية غايته، نماذج ذكورية معينة يريد أن يؤطرها، أن ينتقدها، أن يعرض هشاشتها ومن ثم إظهار ندمها، في حين أنه يتجاهل مثلاً الهيراركية الذكورية التي لا تقتصر على الجندر فقط ولكن تشمل الوضع الاجتماعي والثقافي والاقتصادي التي تؤثر سلباً على النساء وعلى الرجال القابعين في ذيل هذه الهيراركية، وعلى من لم يجد لنفسه مكاناً في الهيراركية أيضاً. على هذا النحو السطحي، البسيط والسهل، والتجاري، يمر الفيلم مرور الكرام على نقده للمؤسسات، خاصة شركة «ماتيل» نفسها التي قدّمت صورة جمالية نمطية للرجل والمرأة، يأتي هذا النقد في مشاهد قليلة جداً، هزلية، أساسها الكوميديا أكثر من النقد الحقيقي الموجّه والهادف، فنجد رجال شركة «ماتيل» ومديرهم في الفيلم مجرد شخصيات كاريكاتورية لا تمثل أي تهديد حقيقي على الدمى كما قد يبدو للبعض. تمثيل كاريكاتوري لرؤوس الذكورية الأبرز، وهو ليس إلا استغلالاً لقضية مهمة في وقتنا الحالي، كالنسوية ونقد الذكورية، بيد أن نقده مرفق بغاية تلميع سمعة الشركة، والاعتراف ظاهرياً بالقطيعة مع ماضيها من أجل الاستمرار في السوق عن طريق تقديم منتجاتها في ثوب/ تسليع جديد.
من الأمور المثيرة للسخرية حقاً أن يكون من وسائل الدعاية للفيلم مجسّم لعلبة «باربي» في حجم الإنسان، موضوع عند بعض صالات السينما، حيث يمكن للجمهور أن يلتقطوا الصور وهم في داخل هذه العلبة، التي تمثل في حقيقة الأمر الصورة النمطية التي يدعي الفيلم أنه يهدمها.