هل نتذكر اللحظة التي أدركنا فيها التعب الأول؟ اللحظة الأولى من التعب؟ أول «تعبة»؟ أو هل نتذكر العتبة التي كان علينا اجتيازها كي نشعر للمرة الأولى بالتعب؟ تدفع الأسئلة السابقة، عجلة سؤال أكبر، وغير هادفٍ: هل يتعب الأطفال؟ تتعب أجسادهم من اللعب والبكاء والحركة، لكن هل يدركون ذلك؟ هل تتشابه أنساق التعب في أذهان الأطفال وأذهان أهلهم الراشدين؟ وما معنى التعب إذن؟ أو أين يحدث التعب؟
يقدّم الكاتب النمسوي بيتر هاندكه في كتاب صغير بعنوان «عن التعب» لمحة فنية موجزة عن فهمه للتعب الذي صادفه في حياته. يأخذنا هاندكه معه من أول التعب إلى آخره، منطلقاً من تجربة ذاتية لا تخلو من تشابك مع الآخر، وفيها يتحدث عن تعبه الشخصي في: الكنيسة، والمدرسة، مع أهله، وفي الأعمال القروية، في الكتابة، وفي الحب، في الطبيعة ومع الحيوان، ليشكّل بذلك لوحة متعبة، بل مرهفة، عن واحد من أسمى المشاعر على الإطلاق وهو التعب. يستهلّ هاندكه كتابه بجملة تساعدنا على السؤال السابق، فيقول:
«ذات يوم أثناء قدّاس منتصف الليل، جلس طفلٌ صغير مع عائلته داخل الكنيسة المضيئة، المتكدّسة بالزوار، حيث كانت تدوّي أغاني عيد الميلاد، وتفوح رائحة الصمغ والأقمشة الصوفية. شعر الطفلُ بشيء من التعب، يتخلله قدر من المعاناة {..} كان ذلك التعب أشبه بالمرض الخبيث، الذي تسلل إلى أعماقي، حتّى شوّه كل ما حولي»
أتمنى لو كان لي أن أتذكر هذه اللحظة المشابهة للحظة هاندكه، كي أعرف كيف أدركت التعب أولاً. يُعينني هاندكه بمدخله في التفكير بالتعب كشعورٍ وفعلٍ واعيين على حدّ سواء. فلا يقتصر التعب على حدوثه، بل يتطلب منّا إدراك حدوثه لكي نشعر به. يحتاج التّعب أن نلتقي به، أن نتحاور معه، أن نلبيه، فهو دائماً ما كان على شكلِ سؤال يحتاج إلى إجابة سريعة. يلحّ التعب علينا ولا يسأم من مطاردتنا لكن ذلك لا يحدث إلا لحظة إدراكنا له ووعينا بوجوده. تعيدنا هذه الفكرة إلى أبي العلاء المعرّي، الذي تعب وأتعب من حوله، وقد كان مدركاً لتعبه ومنصفاً له، حيث يقول: «تعبٌ كلّها الحياة فما أعجب إلا من راغبٍ في ازدياد» وليس قول المعرّي سوى إضاءة شعرية على فكرة إدراك التعب، فالحياة كلّها تعبٌ إلا أن من لا يفهم التعب فلن يشعر به.

(مروان قصاب باشي - «بدون عنوان»)

قد تبدو مسألة التعب شديدة البساطة. فالتعب ابن الجهد، والراحة أم التعب. وليس التعب سوى نداء الجسد أو النفس للراحة. يمكن أن نتوقف هنا، متجاهلين الرغبة العميقة في فهم التعب المحيط بنا، لكنّ اللغة تمنع ذلك؛ فتفتح له أبواباً كثيرة نحو الكلل، والمشقّة، والعناء، واليأس، والعجز، والنعاس، وغير ذلك من مفردات تصبح مفاهيم أكثر تعقيداً في عصرنا هذا. ولذا تفيدنا المعاجم هنا في حوار التعب لغوياً للوصول إلى مكان جديد في فهمنا له والتفكير به وفيه. فإذا عدنا إلى كتاب «العين» للخليل بن أحمد الفراهيدي الذي كتب: «التعب شدّة العناء، والإعجال في السير والسوق والعمل». ما يهمنا في هذا التعريف المقتضب للتعب هو الشق الثاني منه، والذي يصيب مفهوم الإعجال، فالتعب عند الفراهيدي يقترب من مفهوم السرعة السياسي عند المفكر الفرنسي بول فيريليو، الذي يتحدث في كتابه «السرعة والسياسة» عن أهميّة السرعة في الحرب والسلطة تاريخياً وعن عصر السرعة، الذي قد تجاوزناه ربما إلى عصر ما بعد السرعة. يتحدث فيريليو، عن الأجساد المعطوبة التي استخدمت في الحرب، وذلك كتفكير سريع لتعويض خسارات هذه الأجساد بإعادة توظيفها بطرق جديدة: «ديكتاتورية الحركة التي مارستها السلطة العسكرية على الجمهور قد أدت إلى الرفع من شأن الأجساد المعطوبة». ومنه لم يكن التعب رادعاً، بل كان ضرورة من ضرورات السلطة، ويضيف فيريليو حول ذلك: «إن عقل سلطة السرعة لا يتسلط على عدو عسكري معين، بل هو انقضاض متواصل على العالم، من ثمة على الطبيعة الإنسانية» وبالتالي، يمكن التفكير في التعب كأداة سلطة، ناجمة عن السرعة التي يعيشها العالم بالمعنى السياسي وغير السياسي أيضاً. التعب نفسه الذي سيدفع الإنسان إلى تجاوز نفسه بالذكاء الصناعي، للوصول إلى النتيجة نفسها، أي السلطة. فالأجساد المتعبة هي أجساد عاجزة عن تغيير السلطة كما أنها أجساد مهزومة بالضرورة. وهذا باب من أبواب التعب المعاصر الذي علينا ربما أن نفكر عابرين منه نحو فهم مسألة التعب، أو الإعجال والسرعة.
وإن تركنا اللغة تقودنا، فسنجد في لسان العرب، معنى جديداً للفعل «أتعبَ»، قد يفتح باباً آخر للتفكير فيه، فيقول لسان العرب: «أتعب إناءه وقدحه: ملأه» فهنا يُتعب المرء منّا الإناء، أي يمليه عن آخره. فيصبح التعب امتلاءً ووصولاً إلى الحاجة في إفراغ الإناء، أي الراحة أو ما يقاربها من معانٍ. كذلك يمكننا أن نعود في المعجم إلى مفردة أخرى تتجانس مع فعل «تعبَ»، وهي الفعل «وعبَ». حيث يذكر المعجم أن «الوَعْبُ: إِيعابُكَ الشيءَ في الشيءِ، كأَنه يأْتي عليه كلِّه {..} واسْتَوْعَبَ المكانُ والوِعاءُ الشيءَ: وَسِعَه» هكذا فجأة يصبح التعب، الذي يتعرض له الإناء أو الإنسان، هو الامتلاء والاستيعاب، فيكون كذلك الإدراك والوعي، عائدين إلى الفكرة الأولى، التي يتطلبها التعب كي يوجد، وهي إدراكه والوعي به.
«إن التعب يحكي قصة الآخر» يقول هاندكه. يصرّ هاندكه على هذه الرؤيا ويجسدها في كتابته عن عناصر كثيرة، بقدر متساوٍ مع كتابته عن أناه المتعبة، لنجد أنفسنا أمام باب جديد للتعب، باب سردي يحكي التعب من خلاله قصة الآخر، وليست قصة الآخر سوى جزء من هوية الأنا، وقصة الأنا. تختلق الأولى الثانية وتكملها والعكس صحيح كذلك. فليست الشعوب المتعبة، سوى قصة جسدية للسلطة الديكتاتورية، وليست اللغات المتعبة سوى قصة فكرية للثقافات المهزومة، وليست الأجساد المتعبة سوى قصة فيزيائية للطرق والأماكن، وهكذا كل تعبٍ نعيشه يقود إلى قصة الآخر. وقد يكون الآخر في أحيان كثيرة، الذات نفسها؛ فيحكي تعبنا اليوم قصة الآخر الذي قد نكونه لاحقاً، الآخر الذي يدفعنا لنصبحه، الذي يُتعب أذهاننا وأجسادنا لنركض نحوه.
يمكن التوقف بذكر صورة واحدة. هي لوحة للفنان التشكيلي السوري مروان قصاب باشي. لقد أنجزها عام 1966 وتركها بدون عنوان. ربّما تعب قبل أن يصل إلى العنوان. تقدّم اللوحة صورة رجل انحنت أكتافه، وتضاءل جسده، فضبّ يديه إلى داخله، بادياً عليه التعب. ولا يقتصر التعب على صورة جسده، بل على ألوانه وملامح وجهه. يحكي تعبُه قصةَ الآخر، يبدو ذلك واضحاً، فاللوحة لا تخبئ ذلك بل تُفصح عن هذا الآخر عبر يدٍ صغيرة تمتد من يسار اللوحة نحو الوجه، تضغط على العين بشكل متعب وغريب في آن معاً.