يطالعنا المغربي عبد الفتاح كيليطو في كتابه «في جوّ من الندم الفكري» بمواضيع متنوعة تحاكي خبرته الأدبية والمعرفية بأسلوبٍ يشبه التوثيق ومن ثم التعليق عليه، بنكهة أدبية لا تخلو من التنظير المبطّن التي تفسح للقارئ مجالاً للتفاعل عبر التأويل. يحمل كيليطو على عاتقه أخطاءه وأخطاء غيره. هي الأخطاء الخلاقة تحديداً والتي تركته بحالة أشبه بالندم، في جوّ من المراجعة والنقد الذاتي والاستنتاجات التي قوّمتها وساهمت في إبرازها الأخطاء وحدها. من خلفية ثقافية عالية، ومن قراءات، ولغات، وخبرات، وسير ذاتية تتمركز في فكر هذا الرجل، انبثقت مواضيع كتابه بشكلٍ لم يخرج عن دائرة اهتمام وتخصص أساسية يستطيع القارئ استشفافها. كيليطو أولاً، قارئاً كان أم أكاديمياً، يذكر علانيةً أنه يحتفظ بإيقاع واحد لكتابته «يمكن أن أقول إني سعيت، في كلتا الحالتين، إلى الاحتفاظ بنفس الصوت والإيقاع، وبالنغمة ذاتها». كيليطو القارئ هو من أثر، أولاً وقبل كل شيء، على كيليطو الكاتب «المرة الأولى ... هي المرة بعد الأولى وفي أحسن الأحوال المرة الثانية». وعلى ذلك يصح أن نسأل سؤال كيليطو نفسِه إن أردنا مراجعته، سؤاله الخاص «خصوصية الكتابة مرتبطة بنوعية القراءة. ماذا قرأتَ؟» ماذا قرأ كيليطو، ذاهباً بنا بالتالي في متون كتابه؟
جان ميشال باسكيا، «محارب»

قد يظن قارئ للوهلة الأولى أن مواضيعه في كتاب «في جوّ من الندم الفكري» هي «خبط عشواء»، أو تتقصد مواربة قارئها لتشكل نوعاً من الغموض أو الاستعصاء الذي يهبها الوقار، كما نجد ذلك في الكتب التراثية الشهيرة التي تتبع مثل هذا الأسلوب المركب والمحبوك واللغة الخشنة، أو على الأقل اللغة الخاصة لتلك الحقب، وقد يصح ذلك. إلا أن كيليطو يتكئ في كل ذلك، على أسلوب كتابيّ أفشى عن ملامحه بشكل مباشر في الكتاب، وذلك عبر إشارته إلى «القفز والوثب» التي أعاد اكتشافها عند الجاحظ وفي «المقامات». كما اتخذ في أحيان أخرى مقولاتٍ أساسيةٍ لكتّاب ومفكرين، قدماء وحديثين؛ إذ قلما يخفى عن الناظر في كتابه تكرار لإحالات إلى كتاب نذكر أبرزهم: الجاحظ، المعري، بورخيس، كافكا، باسكال أو مفكرين وعلماء مثل ابن خلدون، ابن رشد، أرسطو، فرويد، رولان بارت... لكن الأمر لم يتوقف عند هذا الحد بالطبع، ففي استطاعة القارئ أن ينتبه إلى فكرة مركزية تحرك خيوط عملية الكتابة عند كيليطو ومسار القراءة التي يراهن على قارئها، وهي مفهوم الخطأ. أحد أشكال هذا الخطأ ينطبع بمسألة علاقته مع القدماء، أي هذا التأثير والتأثر، بالإضافة إلى كيفيته، والذي يخلّف أحياناً تطوراً وإبداعاً مغايراً، وأحياناً يترك تأخراً وتبعيةً بل وحتى خجلاً.
«وقد أكون تأثرت بهم..» بهذا الشكل يعبّر كيليطو في أحد النصوص عن كيفية تأثره، غير مؤكدٍ له، وغير نافٍ في نفس الوقت. لا شكّ في أننا إذا فحصنا ترددات هذا الالتباس في نصوص الكتاب كافة، لوجدناه من مواضيعه الرئيسية كذلك. فالالتباس هنا بمعنى الخطأ الإنساني. من لا يخطئ، برأي كيليطو، يشبه السكرتيرة التي وصفها رولان بارت بأن «ليس لها لا وعي». نفهم من ذلك، أن القارئ الذي ينتظر فهماً مثالياً، لعمل كتابي أدبي، أي صواباً أو سهولة في التلقي هو شخص لا خلفية حيّة لديه. هذه الخلفية تفتح حيزاً تأويلياً، وهي ما يراهن عليه كاتبنا. نطالع بالمناسبة هنا صديق كيليطو، المفكر المغربي عبد السلام بنعبد العال، الذي يدعّم إمكانية التأويل عند كيليطو بسبب الكتابة المتقطعة، بحيث يصرّ على أنّها غير نهائية. نجد أن هذا النوع من الخطأ كان الفكرة الرئيسية التي كان من نتاجها نص «فن الخطأ» مقارناً كما نرى، الفن بالخطأ، في إشارة إلى أن الخطأ قد يبدأ غير مقصود وينتهي أن يكون المحرك الأساسي لكتابة جديدة، فنية مبتكرة.
وكيليطو ليس باحثاً في الإبستمولوجيا (علم المعرفة) بشكل مباشر، بل تلقّى ذلك عبر تأثره المباشر بالفيلسوف الفرنسي، صاحب نداء «القطيعة الإبستمولوجية» في المجال العلمي، والمتفرّد في مجال الشعرية والظاهراتية، غاستون باشلار. يستهل كيليطو كتابه «في جوّ من الندم الفكري» باقتباسين، أحدهما لباشلار وآخر لفيلسوف الظاهراتية إدموند هوسرل. في حين أن ما يهمنا هو الاقتباس الأوّل، كون باشلار يغور في موضوع كيليطو، مثلما جاء في اقتباسه حيث يحدد المعرفةَ بما هي «معرفة-ضد»، أي تخطٍ لما يعرقل عملية التفكير عبر تصحيح خطأ ما. فالكشف عند باشلار استرجاعي، والفكر قائم على إعادة التصحيح الدائمة للأخطاء. لكن باشلار في حديثه عن المعرفة، كان يخص فيها المجال العلمي، بينما كيليطو قد اتخذ هذا «الخطأ» كمبدأ له في الكتابة الأدبية بعد أن استفاد من الكتابة البحثية البحتة. وعليه، يمكن القول أن فرضية كيليطو في عالم الكتابة قد اكتملت، أو نذكرها على لسانه: «اتضح لي أن الخطأ ليس شيئاً يحدث أو لا يحدث، إنه على العكس المكوّن الأساس للكتابة». والجدير بالذكر أنه يُخرج الفرضية من خلال تجارب كتابه المفضل نفسه. يبقى علينا بالتالي أن نبرز تذبذبات الكتابة بالخطأ وأشكالها.
لقد تنوّعت هذه التقنية التي أبدعها كيليطو في كتابه، على مدى 14 نصاً، إذ توزعت «الأخطاء» بينه وبين الآخرين، وبين أخطاء أبطال الأعمال الأدبية أيضاً. منها ما جاء مقصوداً، ومنها ما كان بحثاً عن خيط ودليل أشبه بالروايات البوليسية، ومنها ما جاء ذنباً، أو زلةً لغوية، أو سهواً، أو حركة طبيعية للاوعي كما يحدث في حلم النائم.
ندم كيليطو كما يتضح لنا إذن، هو ندم خالٍ من اللوعة، ندمٌ مطعّمٌ بالحكمة التي سكنت صاحبها بعد أن تعثر بالخطأ وقرر بعد تعثره أن يأخذ من هذا «الخطأ» مساراً. ثم إن كيليطو، المندهش من الخطأ، لا يتوانى عن اقتفاء أثر أخطائه، والأخطاء التي أصابت أبطاله المفضلين. ففي مقالة «الواحد بعد الألف» كان انتباه شهريار من سكرتِه هو مغزى القصة. وفي مقالته «جيد...هذا الأمر» لعب النقص وما لا يقال، وذلك عبر الحذف والتنقيط، عن دور ما يقال ودور المتن الأساسي، المسألة التي تحيلنا إلى نظرية الفيلسوف الفرنسي ديريدا في أن الغائب هو الحاضر الرئيسي في النص. وفي المقالة نفسها تذكير لمن يخطئ اللغة، واعتراف كيليطو بإجحافه في عدم كتابة ما يجب كتابته في حينها، أو أن يعلن أن كتابه «الغائب» بأكمله هو تصحيح لكتاب آخر سبق وألفه بلغة مغايرة. ندمه فإذاً، ملحوق بكتابة جديدة.
هكذا، يطالعنا مبرراً في مقالة «لهذا نقرأ الأدب الكلاسيكي» وكأنه يستدرك أمراً فات بأننا نقرأ «لننقذ الموتى من النسيان»، وعائداً بشكل ضمني إلى باشلار بقوله «التجديد هو الوقوف في الضد» ملاحظاً أننا مخطئون في تعريف كلاسيكيتنا العربية مع التذكير بأن تعريفها مرتبط بالآخر. تعقيبه هذا سيتمدد ليحطّ في مقالة «مجرد حرف» ليطاول موضوع الخطأ في اللغة بهامش نقديّ أوسع. فكاتبنا يخبرنا، في المقالة تلك، عن عجزه عن نطق حرف الراء بالفرنسية، ويتلبّك من إشارة الآخر إلى دخوله في لغة غير لغته.
الكتابة بالخطأ، عند كيليطو، ستجعلنا نتعرّف إليه كشاعر طفيليّ ثقافياً كما جاء في مقالة تحت عنوان «أخت فرانسوا الأول»، وباحثاً يقظاً يفتّش في المفاتيح لملء النقص كما في مقالة «على هامش الرؤيا»، وباحثاً لغوياً يستنطق احتمالات اللغة التي تنتظر الفرصة المناسبة للظهور كما جاء في نصّ «الفتحة التي تخفي الكسرة». سنكتشفه متهكماً في «شارل بيلا» من إسقاط اسم مترجم كتاب «البخلاء»، الخطأ الذي جعل القراء يظنون الجاحظ كاتباً معاصراً يضع النظارات الشمسية، هو خطأ مضحك سيجعل كيليطو يظهر على أنه الجاحظ، وكأن الثاني تقمّص الأول. يمكننا اعتبار نص «فن الخطأ» مانيفستو الكتابة بالخطأ، ذلك أنه كشفٌ لما أملاه لا وعي كيليطو عليه، وما ظنه أنه خطأ، حيث انتهى به إلى أنه خلط بين كتابي «ألف ليلة وليلة» و«مئة عام من العزلة». خطأ ترك وراءه الكثير من المسائل التي استغلها كيليطو، كتب فيها وأبدى رؤيته لها، تاركاً إيانا مع مؤلَف يشيد بهذا الخطأ الإنساني، ويدفعنا إلى البحث والكتابة، إلى أن نخلق خطأ إثر خطأ، ومرة تلوّ أخرى. هكذا يشيد النص قلاعه بناءً على هذا النقص، أي الغياب الذي منه يعبر القارئ إلى تخيُّل ما ينبغي أن يكون موجوداً.