إنه من الصعب، بل من المستحيل، الغوص في برنامج «ساوثبارك» (أنيمايشن) بغية الكشف عنه في مقالة واحدة. لكن هذا ما يجعلنا الآن نكتب عن «ساوثبارك»، فالاستحالة هذه هي السبب الرئيسي التي تجعل منه برنامجاً يستحق الكتابة. وبقدر ما يشعر الكاتب بثقلٍ مُلقى على عاتقه لكي ينوّه، ولو بالقليل، عن ما يتخلله البرنامج من تفاصيلٍ لها أبعادها الثقافية، وعلى ما ينطوي من رسائل مضمرة تحتاج إلى تفكيكٍ للقبض على دلالتها، فإن مُشاهد «ساوثبارك» يحمُل المسؤولية عينها، ذلك لأن عبء التفكير ملقى عليه أيضاً. فالمُشاهد ليس بمتفرجٍ سلبيّ محايد بقدر ما هو مشارك ضمني في العمل، إن كان بتوّرطه المباشر في الضحك، أو في قبضه على المعنى في تأويلٍ يُقدِم عليه بعد الضحك، أو بالكثير، بعد انتهاء الحلقة. لذلك، فإن مقارنة «ساوثبارك» مع أي مسلسل آخر، خصوصاً «ذو سيمسِنز»، خطوة بليدة بحق الاثنين. وأمام مقارنات لا تجدي نفعاً كهذه، فإن أفضل طريقة للتملص من هذه البلادة، تكمن في العودة إلى «ساوثبارك» نفسه، واستذكار قوّته النقدية، وقدرته الفائقة ليس على التنبؤ والاستشراف، بل على النقد اللاذع، واستهزائه بأحوال العالم، والأهم، في جماليته الأسلوبية المهيبة في نسجه للقصة وفي كيفية عرضها.

(تصميم: فرانسوا الدويهي)

في مدينة بائسة، ديستوبية في كولورادو، كل شيء ممكن أن يحصل. يمكن للناس أن تسافر إلى أرض السنافر، يمكن للبراز أن يغني، ويمكن للإرهابيين مهاجمة المخلوقات الأسطورية. جوّ سريالي مفرط بسرياليته، بيد أنها سريالية قصدية غير مجانية، أي أنها أسلوب معالجة ترتكز على عناوين وقصص تنبثق من الواقع الذي لا يختلف عن الكوابيس المرعبة. من هنا، يغوص البرنامج في هذا الواقع، في قضاياه ومسائله، ويضيء على مواقفٍ غالباً ما تكون ملتبسة، أو هشّةٍ فيما هشاشتها قابلة بأن تجعلها عرضةً للالتباس.
في تلك القرية الكامنة في كولورادو، هناك أربعة أولاد يلعبون دور البطولة. هم لم يكبروا طيلة الأربعة وعشرين موسماً ولن يكبروا أبداً. إنهم أبطال تلك القرية الغامضة المدعاة «ساوثبارك». ومن الأفضل أن نعرّفهم على أنهم شخصيات البرنامج، لأن البطولة تعتبر محطّ سخرية في «ساوثبارك». فالبرنامج تحديداً، هو تصوير للذات «المقذوفة في العالم»؛ فالبطل ميّت، والحياة في حالة تخبّط، والمرء في حالة بحث دائمة للخروج من الدوامة التي تحيط به. على أيّ حال، إن خيارات شخوص «ساوثبارك» لا تختلف عن قتامة الواقع أو سريالية البرنامج، إذ دائماً ما تكون استجابةٍ لميولٍ قاتمة ترزح نحو الشرّ. إنها شخصيات غريبة ومتناقضة، مرسومة كارتونياً لكن الطابع الإنساني يغلبها، وهي تتحلى بمزايا تشبه إلى حدّ بعيد، توصيف توماس هوبز للطبيعة البشرية: شريرة، وقاسية، وبحالة من الحرب الدائمة.
ومن هذا المناخ السوداوي نفسه تأتي ثيمات حلقاته في مواسمه الأربعة وعشرين ضمن ملعبٍ مفتوحٌ، وحرية لا تعرف سقفاً. الأمر هنا، ليس مقتصراً على خروج البرنامج عن التقاليد وتدنيسه لحرمتها أو خرقه للصوابية السياسية فحسب، بل في ترحاله الفذّ ضمن حقل ألغام متفجر. لكن هذا الحقل قد تفجر فعلاً مع «ساوثبارك»، لينكشف لنا إذاك تناقضات القضايا المعلّقة التي لا تفسّر، والمأزق الذي يعتري «العالم الجديد»، ومن هذا الانفجار أيضاً، يتعرى الإنسان المعاصر وتبان عيوبه على الملأ.
إن الموسم الثاني والعشرين من «ساوثبارك»، والذي صدر عام ٢٠١٨، يعد علامة فارقة في تاريخ المسلسل، ليس لأنه تبنى السياسة كموضوع وراح يصوّب نقده على الولايات المتحدة الأميركية، فهذا من بداهة شروط لعبته، إنما لأنه تجاوز النقد ورسى على موقع النقيض. ومن طبيعة الحال، فإن «ساوثبارك» هو ساحة حرب مفتوحة على كل النزعات الثقافية والسياسية، بحيث يشير بأصبعه على عيوب أميركا ومجتمعها بشكلٍ مقذع، يترجَم ذلك مثلاً في فضحه عقم الفرد الأميركي وتناقضاته، وفي كشفه النوايا المخبأة والعادات الفادحة العنصرية من دون إغفال المأزق الأخلاقي والعملي التي تتطلبه حياة قائمة على قاعدة «الغاية تبرر الوسيلة». فلطالما توّرط البرنامج في فضح الفرد الأميركي، وتعريته للرأسمالية المستشرية كجائحة ملعونة. لكن في هذا الموسم تحديداً، فقد عمد على تفكيكه لسلوكيات هذا الفرد بوصفه عدواً لنفسه أولاً قبل أن يكون عدواً شرساً لمجتمعه، منطلقاً من إظهار اللامبالاة التي يتمتع فيها، وتمجيده للـ«فردانية»، كما أنه صوّر انغماسه في الاستهلاك، ومشيراً على نحوٍ دقيق إلى الكثير من المعتقدات التي تبشر بها الرأسمالية وتجعل منها أيديولوجيتها، ليذهب نحو «النسَق المعادي\ العدوّ» أي الاشتراكية بما تحمله من دعوة إلى التمرد وقيّمٍ مغايرة واضعاً إياها كسلطة-ذو طابعٍ إيجابي- توّاجه تلك الجائحة المتوحشة.
يبدو الأمر للوهلة الأولى، مفاجئاً بشكلٍ رهيب، كوّن تبني الانحياز السياسي، من ثم تبني سردية سياسية، فتقمُص خطابها، يُعتبر عادة غريبة على «ساوثبارك». لكن المفاجأة الكبرى، تكمن في البُعد الجمالي، «المَبنَى الشكلي» الذي يطغى على كل من الحلقتين السادسة والسابعة من هذا الموسم. فقد أنجزت «الإيتيقيا» المهمة، وجاء المَشهد البصري محمّلاً بما أرادت الحلقة قوله. لقد أفصح بـ«جماليته» عن الدلالة بعد أن جاءت العناصر البصرية كتحفيزٍ للمضمون من دون أن تضمر القول. هناك «جحيم» دانتي، الدال على الرأسمالية، ولديك شخصيات «فاوست»، وهم المواطنون الأميركيون. هكذا يرسم لنا «ساوثبارك» المشهد كاملاً وكأنه يريد أن يقول: «إن صفقات فاوست لا تجري إلا في الجحيم، وقد وجدت الصفقة فرصتها السانحة في ظل هيمنة الرأسمالية. إن الشرّ المنبثق من السلطة النيوليبرالية يفوق وحشة وقتامة، من الشرّ الذي تتحدث عنه الكتب السماوية الدينية.»
لكن قبل الولوج في الحلقتين، السادسة والسابعة، دعونا في البداية، أن نعرّج على ما جاءَ سابقاً، لكي نفهم معنى الحلقتين عن كثبٍ. يبدأ الموسم 22 بتهكمٍ حاد حيال الظواهر الاجتماعية المنتشرة في الولايات المتحدة، مثل إطلاق النار في المدارس، مراقبة حرية التعبير تجاه المجموعات المهمشة، إنكار التغير في المناخ، ظروف العمل والتكتيكات الاحتكارية للأمازون. ومن ثم، في النصف الثاني منه، يَتخذ البرنامج نبرة يسارية عالية، وهي نبرة غير معتادة، تبدو واعظة حيناً، ونقدية استهزائية أحياناً، لكنها في التئامها تتقصد تحطيم المفهوم النظري للرأسمالية من جهة، كما أنها تبتغي لدغ ممارسة الشركات الكبرى وأصحابها من جهة أخرى. جيف بيزوس، على سبيل المثال، يتم تقديمه على أنه مسخ شيطاني خارق، ذو رأس عملاق مغطى بأوردة جاحظة. إنه لا يفتح فمه عندما يتحدث، يتواصل من عقله فقط فيما يبدأ رأسه بالدوران أثناء نطقه. نائب رئيس الولايات المتحدة السابق آل غور يظهر مهجوساً بفكرةٍ لا يعرفها أحد سواه. فهو مهمومٌ بشكلٍ لا يُصدّق، يحذّر من «مانبيربيغ»، وهو إنسان على شكل وحش، نصفه خنزير فيما النصف الآخر مكوّن من دبّ وينوي قتل الجميع وتدمير الكوكب.
لكن وإذا ما عدنا إلى الموسم العاشر، فقد برز آل غور للمرة الأولى في حلقةٍ بعنوان «مانبيربيغ»، حيث كان قد حذر فيها من «التهديد الوحيد والكبير لكوكبنا»، أي الخطر الذي يجسّده «مانبيربيغ». والأخير، هو شيطان فتّاك لا يعرف الرحمة، ينوي ذبح الكائنات البشرية بغية الاقتصاص والانتقام منهم، وهو بحالة هجوم عنيف على بلدة «ساوثبارك». في ذاك الموسم، رفضت كل الشخصيات آل غور وأفكاره، واعتبروه مجنوناً، يسعى للشهرة، لكن بعد مرور 12 عاماً، أي في الموسم 22، فقد أدركوا وخصوصاً بعد تهديدات «مانبيربيغ» أن آل غور كان محقاً. ففي الحلقة السادسة من الموسم الثاني والعشرين، يتم تجنيد آل غور من قبل الشخصيات الرئيسية. في الحلقة السابعة، تعاون غور والأولاد مع الشيطان لتدمير «مانبيربيغ» إلى الأبد ولكنهم اكتشفوا أن الواقع أكثر تعقيداً مما كانوا يعتقدون في البداية.
لكن ماذا يريد «مانبيربيغ»؟ وما علاقة «فاوست» وجحيم «دانتي»؟ وأين هم الشياطين وأين هو الجحيم، بحق الجحيم؟
من يفكر بما يمثّل «مانبيربيغ»، أي الناظر برمزيته عن قربٍ، فلن يراه سوى رمز مكثف لإنسان «الرأسمالية المتأخرة». فالوحش العملاق الذي يطمح إلى التدمير ويتلذذ بالحطام، ما هو سوى تمثيلُ للمواطن الأميركي الذي لا يتعب من الاستهلاك ولا يتمركز سوى نحو ذاته، وعدا عن امتيازاته فهو لا يفكر بشيء، وإن فعل، فيبدو على شاكلة اللامبالي واللامكترث. فالقول بأن «مانبيربيغ» يمثل الرأسمالية المتأخرة، يعني أنه يُمثل جلّ ما تحيل إليه الرأسمالية المتأخرة: من منظومة القيّم، إلى سلوكيات ومزايا وصولاً إلى الأفكار والمعتقدات نفسها. ففي الموسم 22 هناك حلقة بعنوان «حان وقت الحصول على الرقائق»، تحكي عن رجل يتناول العشاء في مطعم برفقة زوجته وولدهم. تصرّ الزوجة على أن «مانبيربيغ» يمثل مشكلة، وأنه سيستمر في تدمير الريف إذا لم يتم فعل شيء ما، ليرّد زوجها بأن «مانبيربيغ» مختلّق، ولا أساس لكل ما يصدٌر عنه من الصحة، ويقول: «وإذا كان الأمر حقيقياً، فماذا يمكننا أن نفعل حيال الأمر الآن؟ ما الذي يمكننا أن نفعله ولم يفعله شخص آخر؟» وبهذه الأثناء كان «مانبيربيغ» قد اقتحم المطعم بعد أن حطم النافذة، وراح يلتهم رواد المطعم الآخرين، ليأكل الزوج أخيراً.
تتلخص تعليقات الرجل في حلقة أخرى «لماذا يجب أن أجبر على الاهتمام عندما لا أعرف أن الآخرين سيفعلون ذلك؟» شعور إنساني للغاية ويخص المواطن الأميركي تحديداً، في لامبالاته وتمركز تفكيره حول ذاته فقط. هي رد الفعل الطبيعي حيال أمر فظيع لدرجة أن الفرد يشعر بالعجز عندما يتعلق الموضوع بإيجاد حلّ. ولكن في مواجهة شيء من شأنه أن يتسبب في الموت والدمار الهائل الذي يجسده «مانبيربيغ»، أي في قتل كل شخص في المطعم، فإن تلك الحجج تبدأ بالتلاشي. هذا شأن أميركي خاص لأن الأميركيين اليوم، ينتقدون بزخم حكومتهم وثقافتهم ومع ذلك، يستمرون في دفع ضرائبهم، وتمويل الشرطة التي كثيراً ما يشتكون منها، وتأجيج الحملات العسكرية لحكومتهم والنهب الدولي لموارد العالم. كتب بليز باسكال ذات مرة أنه «إذا كنت محايداً في حالات الظلم، فقد اخترت جانب الظالم». وهكذا، ومثل الرجل في المطعم ورجال الشرطة في «ساوثبارك» الذين يمتازون بسلوكهم اللامبالي ورفضهم لتحمل مسؤولية أفعالهم، يبقى الفرد الأميركي متواطئاً في استنزاف موارد الأرض وقمع حرية وحياة جميع سكان العالم. هناك حدث آخر، مثير للاهتمام، يكشف عن هذه اللامبالاة تجاه المجتمع، عندما يُطرح السؤال «متى يجب أن أبدأ في القلق؟». عندها يجتمع أعضاء مدينة «ساوثبارك» لمناقشة ما إذا كان ينبغي عليهم البدء في القلق بشأن تهديد «مانبيربيغ» أم لا. لكن مع مرور الوقت أصبح التهديد أكبر وأكثر وضوحاً، وأصبحت المؤتمرات نفسها أكثر سخافة، وراح الخطاب ينحو بعيداً من الواقع.
تدرك الشخصيات الرئيسية الأربعة في الحلقة السادسة من الموسم 22 أن «مانبيربيغ» حقيقي، فتطلب المساعدة من آل غور. يخبر آل غور الأولاد أنه في مرحلة ما، أصبح «مانبيربيغ» أقوى من أن يوقفه أحد، وهم بحاجة إلى أداء طقوس شيطانية لاستدعاء الشيطان، فالأخير يرسل كائنات شريرة مثل «مانبيربيغ» إلى الأرض كل بضعة أجيال لكي تعقد صفقات مع البشر. تخبرنا الحلقة السادسة من هذا الموسم حقيقة مقولة «أن تبيع روحك إلى الشيطان» وما الذي تعنيه. فجحيم الرأسمالية مثل جحيم دانتي بل أشدّه حرارة، وشياطينها ضحايا مثلما صور فاوست الشيطان، لكن ضحايا الرأسمالية هذه المرّة هم من أعجبوا بالجوّ الحار وأرادوا أن يكون لهم مقعد فيه. فسبَق وحذّر آل غور من مخاطر التصنيع والاستهلاك في تدمير الطبيعة ومن ثم الكوكب، ولم يستمع أحد إليه، كما أن كل ذلك الجنوح القائم على الشراء والاستحواذ كان مقدّراً أن تكون نتيجته الفوضى الساخطة التي سيطرت على القرية، والتي إذا ما نذرت بقدوم «مانبيربيغ» إلا أنها جسّدت ما ستكون عليه الأحوال عقب مجيئه. لقد باع سكان قرية أرواحهم إلى الشيطان ليعيشوا «النعيم الأميركي» معتقدين أنهم، في بيعهم هذا، قد عقدوا صفقة من شأنها أن تكون منصفة وعادلة بحق الجميع.
عندما اكتشف الأولاد أن «مانبيربيغ» قد عقد صفقة مع أجدادهم فهموا سبب جنونه واقتحامه القرية بهذه الفظاعة. علموا أنه يريد تحصيل ديونه التي بذمتهم. ذهب ستان، وهو أحد أبطال المسلسل، إلى المنزل ليخبر والده عن «مانبيربيغ»، إلا أن والده وكأي فردٍ أميركي: غارق باللامبالاة ولا يكترث بأي حدثٍ يقع خارج ذاته، لذلك راح يشتكي ويتذمر من سلوك ستان بحجة أنه يبدو مثل جدّه تماماً. عندها أدرك ستان أخيراً أن جدّه هو الذي عقد الصفقة، ليتوّجه إلى دار النقاهة حيثما يبيت لمعرفة المزيد من التفاصيل. وبعد بحث وتدقيق، اعترف جده بالأمر، وشرح له أنهم أبرموا في ما مضى صفقاتٍ مع الشيطان لأنهم أرادوا «أشياء جميلة»، والآن، إن «مانبيربيغ» يدمر المدينة لأنهم «لم يرغبوا في إعادة أغراضه إليه». المقصود «بالأغراض» فهي السيارات الجميلة ومتجر آيس كريم وأميركا الخمسينيات حيث كان الحلم الأميركي متوهجاً. وفي حين أن للآيس كريم وطأة أو تأثيراً كوميدياً، فإن السيارات تمثل أسلوب الحياة الفاخر وصعود النزعة الاستهلاكية التي ميّزت عصر فورد بعد الحرب العالمية الثانية، العصر الذي يمكن وصفه بأنه الصورة الأبهى للحلم الأميركي. ومع ذلك، وكما يرمز «مانبيربيغ»، فإن هذه الرفاهية وعدم استعدادهم للتخلي عنها، بالإضافة إلى «الفردانية» المفرطة، قد جاءت ضمن كلفةٍ ولها تكلفتها، سواء بالنسبة للناس أو بالنسبة للبيئة وللكوكب. وفي الحلقة 7، يستدعي آل غور الأولاد، الذين يستدعون بدورهم الشيطان، لأن آل غور ارتأى أن الحل الوحيد هو باستمالة الشيطان إليهم للقضاء على «مانبيربيغ». وهكذا حدث. استدعى الأولاد الشيطان وطلبوا منه محاربة «مانبيربيغ» نيابة عن الإنسانية. «لماذا يجب أن تساعد البشرية؟» يسأل الشيطان، ليجيب أحدهم: «لأننا كنا نفعل الأشياء على طريقتك». عندها، يقرر الشيطان مساعدة البشرية ومحاربة «مانبيربيغ»، لكن ينتهي أمره، بحدثٍ تراجيدي يثير الحزن، ميّتاً في الشارع مهزوماً. يتجمع أهل «ساوثبارك» حول الشيطان، فيرثونه ويراقبون روحه تسمو إلى السماء بأجنحة ملاك، فيما أجراس الكنائس تقرع، بمشهدٍ فني، بليغ، صادم ومدهش.
يموت الشيطان ومثل الأولاد، نشعر بالتعاطف معه. إن ما نراه هو المصير الطبيعي للـ«ضحية الرأسمالية»، تلك التي ترسم خطّ موتها أثناء عيشها. فموت الشيطان هنا ليس بموت الشرّ، لقد انتصر «مانبيربيغ» والشر ما زال على قيد الحياة، إنما موت الشيطان هو صورة الموت أو الطريق المسدودة أمام الفرد، «الضحية الرأسمالية»، الذي لا يهتم بما يجري أبعد من حدود منزله، الذي لا ترهقه الأشياء والأغراض بقدر ما يرهقه عدم وجودها.
لم يستطع أحد القضاء على«مانبيربيغ». لم يكن هناك من طريق للنجاة أمامه سوى بالاستسلام له والذهاب طوعاً نحو شروطه. وكما جرى الأمر سابقاً، أتمّ الأولاد صفقة معه. التاريخ يُعاد، يتكرر، وهذه هي حركة التاريخ في ظل هيمنة أميركا. يمكن القول إن موت الشيطان أمام شيطان متوحش أكثر منه، هو إشارة إلى أنه ربما تكون أميركا، إذا عقدت العزم على الحماية من الوحشية التي أطلقت عنانها على العالم، جديرة أيضاً بالفداء. أو ربما أنها مثل سكان «ساوثبارك»، عدوّة نفسها وعدوّة الجميع، فتقضي على الوحشية من خلال تأجيل الخسارة مع الوحش، ذلك من خلال إبرام الصفقات معه. ولكن اليقين الوحيد يبقى أن الصفقة مع «مانبيربيغ» هي إعادة إنعاش الحلم الأميركي، وترسيخ قوّته، وهي إشارة تفضح في صميمها نموذج الرأسمالية التي تجدد نفسها باستمرار، وما تلبث أن ينتهي طوّرها حتى تبدأ من جديد. يكتب هاردت ونيغري أن «النظام العالمي الناشئ، مثل الرأسمالية، يعمل من خلال الأزمات ويتغذى عليها. إنه يعمل، في كثير من النواحي، من خلال الانهيار. إنه يعمل، في كثير من النواحي، عن طريق الانهيار». تمّـت الصفقة على ذلك النحو. على شكل الخراب الذي أحدثه «مانبيربيغ»، وعلى شاكلة بشاعته أيضاً، تعتاش أميركا وتعيش وتعقد صفقاتها فيما نحن نواجه، وحدنا، «مانبيربيغ».