بعلبك -1899على تلّة قديمة يسمّيها الناس هنا (ضهر الشّير) لقسوة انحداراتها وشدّة نتوءاتها، جلس الحاج عمر يراقب الشمس وهي تتوارى خلف (الغربي)، وترمي بآخر خيوطها على هياكل المدينة الشاهدة على حضارات وممالك وإمبراطوريات ودول وجيوش وثورات ولدت وضجّت بها الدنيا، ثم أسقطها التاريخ وبلعتها الجغرافيا. ومن مكانه المطلّ هذا، راح يفكر في تفاصيل القرار الكبير الذي عزم على أن يفاتح به ولده خليل هذه الليلة.
كان عمر، الذي لن يعرفه أحد من أهل المدينة إذا ما أسقطتَّ عنه لقب الحاج، واحداً من كبار تجّار المدينة وأعيانها. ورث عن والده، فضلاً عن دماثة الخلق وطيب المعشر وحسن المعاملة، علاقاتٍ طيبةً مع كبار تجار دمشق والقدس؛ إذ كان والده واحداً من أصحاب القوافل التجارية التي رافقها غالباً في رحلاتها بين المدينتين، ناقلاً أصناف الحبوب والتوابل والأقمشة الفاخرة، وممدّاً تجار القدس بالبضائع اللازمة لتجارتهم مع مصر.
لاحقاً، ومع انخراط الحاج عمر أكثر وأكثر في أعمال والده، التفت -وفي وقت مبكر- إلى أهمية الاستفادة من مهارة الحرفيين البعلبكيين في نسج الأقمشة وخياطتها، فلم يعد يكتفي بتأدية دور الوساطة، إنما تعدّى ذلك ليصير اسماً كبيراً في عالم الألبسة ذاع صيته حتى ملأ ما بين بغداد والقاهرة.

«يوسف»، ابراهيم جمال

استرجع الحاج عمر كل ذلك في ذاكرته، وهو يكرر في رأسه للمرة الألف، الفكرةَ التي سيعرضها على ولده خليل. «ولكنك تعرف يا أبي أنه لا يمكنني مغادرة بعلبك لأوقات طويلة، ثم إنّ وجودي هنا ضروري وأساسي لتسيير أمور محل الأقمشة ومستودع الحبوب». قال خليل مستنكراً حين فوجئ بطلب والده منه الاستعداد للسير مع القافلة الجديدة التي ستتوجه إلى القدس في غضون أسبوعين أو ثلاثة. «حسناً، لا بأس... فلتبقَ أنت هنا لتدير الأمور، واترك أباك الكهل للطريق والسفر»، أجاب الحاج عمر، وهو يعرف مسبقاً أن جوابه هذا سينتهي بربح الصفقة.

القدس 1899
كانت المرّة الأولى التي يدخل فيها خليل إلى القدس لحظات لا يمكن أن تُنسى. فالقدس ليست من تلك المدن التي تمرّ فيك خفيفة بلا أثر، على خلاف كثيرات غيرها، بل تسقط في قلبك دفعة واحدة، ثم، كبقعة زيت هائلة تتمدد في قلبك وعقلك وروحك، حتى تغطي كل شيء وتستحوذ عليك بالكامل.
هذا ما شعر به خليل تماماً وهو يُشرف من جبل المكبر على المدينة التي انفتح لها قلبه.
مرّت الأيام العشرة في القدس وكأنها ومضة عين، تعرّف بعضَ أصدقاء أبيه من كبار تجار المدينة. أتمّ تجارته معهم على أكمل وجه، زار المسجد الأقصى وقبة الصخرة، وعرّج على الزاوية الرفاعية، اصطحبه صديق تعرّف إليه عند سوق العطارين في جولة على كنيسة القيامة، وسائر الأديرة والمآذن والمداخل والأسوار والأسواق. امتلأ بالقدس وشوارعها وحاراتها وحواكيرها وناسها، أحبّها كثيراً، وقفل عائداً إلى بعلبك.
لاحقاً ومع توسّع تجارته في السنوات الست التالية، زادت وتيرة زياراته القدس، فصار يزورها في السنة ثلاث مرات أو أربعاً، يقضي فيها وقتاً أطول حتى صارت له كمدينة ثانية. وهناك، في محل العطور الذي يملكه العم حنا، لمح خليل مريم مرتين. وكنسمة من نسمات القدس، كان المروران كافيين ليفتناه. وهناك، بعد أشهر من الكتمان، وبعد رحيلين وعودتين، يقرر خليل أن يكسر الصمت وأن يفاتح العم حنا بالأمر.
«مريم؟! مريمتي أنا؟! وحيدتي؟!» بدهشة ممزوجة بابتسامة خفيفة حاول إخفاءها ولم ينجح، استقبل العم حنا سؤال خليل. ولم تمض أيام حتى كانت القافلة تسير شمالاً عائدة إلى بعلبك حيث الحاج عمر ينتظر خليل، محملاً هذه المرة بالبضائع وأيضاً بالبشرى السعيدة.

صفد 1905
«تلك صفد» قال قائد القافلة لخليل وهو يشير بيديه إلى مدينة لاحت للتوّ في الأفق. «جيد، فلنشدّ المسير إذاً» أجاب خليل وهو ينكز بطن راحلته بقدمه. وما هي إلا ساعات حتى كانوا في صفد حيث سينامون ليلتهم، قبل أن يكملوا المسير غداً في اتجاه بيسان.
في تلك الليلة، لم يتمكن الحاج عمر من النوم، وبقي يتقلب ألماً وهو يشعر بأمعائه تكاد تتقطع في بطنه. وما إن أشرقت شمس اليوم التالي، حتى أبلغ طبيب مستشفى جمعية التمريض الصيدلانية الواقعة في حي اليهود في صفد خليلاً بالخبر الصاعق.
كانت الكوليرا كابوساً تعيشه البلاد في تلك السنوات، وتفاقمه تداعيات الحرب العالمية الأولى، وانشغال الدول والحكومات بأخبار الحروب والجبهات والمعارك، كما كانت أخبار المرض الفتاك، الذي قتل منذ ثلاث سنوات فقط أكثر من خمسة آلاف في دمشق وحدها كافية لتجعل منه مرضاً مخيفاً ومرعباً وسيئ السمعة.
وعلى الرغم من أن السنوات الأخيرة شهدت حديثاً متزايداً عن مضاد حيوي فعال جرى تطويره ضد الكوليرا، ومع أن الطبيب نصح العائلة به، إلا أن الحاج عمر استمر برفضه تلقي العلاج، وفي كل مرة كان خليل يحاول فيها أن يقنعه، كان يصطدم بالجواب نفسه:
«تريد منهم أن يجربوا عقاقيرهم الرديئة على والدك يا صبي؟»
ويستطرد: «عُد بي إلى بعلبك، أريد أن أدفن هناك قرب قبر جدك يا خليل»، وهو ما كان.

القدس 1907
مسح خليل دمعة سالت على وجنته وتابع:
«وهكذا يا عم حنا، لم نتابع مسيرنا مع القافلة صوب القدس، ولم يمضِ أسبوع على وجودنا في صفد حتى وافته المنية راضياً قانعاً مؤمناً محتسباً. ولم أفكر يومها إلا في شيئين فقط، أولهما كيف أنقل الجثة لدفنها في بعلبك كما أوصى، وثانيهما...». أخذ نفساً عميقاً كمن يؤلمه تذكّر كل تلك التفاصيل دفعة واحدة، وأردف: «وثانيهما كان الرسالة التي كتبتها لك من صفد، وأرسلتها بالبريد أخبرك فيها ما حصل، وأعلمك أنني سأتأخر قليلاً في العودة إلى القدس». ران صمت ثقيل في المحل الصغير المطل على مدخل سوق العطارين، وطال لدقائق، في حين كان كل منهما يحاول أن يستوعب الأمور ويخرج من الصدمة، إلى أن تنحنح العم حنا، وعدّل من جلسته وهو يسأل خليلاً أن يتابع كلامه. «لاحقاً، حين واجهتني بعض المشكلات التي كان عليّ أن أتعامل معها بعد رحيل الوالد، وحين اكتشفت أن سفري قد يتأخر لأشهر إضافية، قصدت محطة بريد بعلبك لأرسل إليك رسالة أخرى، لكنهم أخبروني أن محطة بعلبك ومعظم محطات بريد ولاية الشام توقفت عن استلام أي رسائل أو إرسالها بسبب الحرب، عدا المراسلات الحكومية ورسائل الجنود، وعلى الرغم من محاولاتي مع موظف البريد، رفض تماماً تسلّم رسالتي».
واستطرد وهو يزفر كمن يلفظ النفس الأخير: «لم يدر في خلدي يومها أنه حتى الرسالة التي أرسلتها من صفد لم تصلكم».

بعلبك 1918
واقفَين على باب المحل، ربّت العم حنا على كتف خليل وهو يودعه: «الزواج قسمة ونصيب يا خليل، وأنت شاب مهذب وطموح، ولا يزال العمر أمامك لتتزوج وتبني أسرة، أثق أنها ستكون أسرة رائعة، وأعرف أنك ستكون لها ربّاً ناجحاً. وما حصل!! من يدري؟! ربما يخبّئ الله لك ولمريم ما هو أفضل. وهو الأعلم بالأقدار». تذكر خليل هذا الموقف وتردد صدى جملة العم حنا في رأسه وهو يراقب ابنه أحمد ذا الأعوام الستة يرمي بالحجارة في مياه نهر رأس العين، ويقهقه عالياً وهو يراقب الحجر يغرق في المياه الصافية. ارتسمت ابتسامة خفيفة على شفتيه، ثم التفت إلى سعاد، وسألها: «ألا يجب أن نعود إلى البيت؟!». ابتسمت بحياء وقد فهمت تلميحه، وأجابت: «نعود إلى البيت».

بعلبك 2023
أحمد هذا هو جدي، عاش كل عمره في بعلبك، تزوج فيها، أنجب فيها ومات فيها. أجلس الآن قبالة التلفاز أشاهد صور المذبحة ومقاطع الفيديو التي تنزل من غزّة على رؤوسنا كالصواعق وأفكر: «لو أن تلك الرسالة وصلت إلى وجهتها، لانتظرت مريم خليلاً ولتزوجا لاحقاً، ولربما استقرا بعد ذلك في القدس التي فتنته مذ دخلها للمرة الأولى، ولربما أنجبا طفلاً صغيراً جميلاً وسمّياه أحمد، ولربما كبر أحمد في القدس لا في بعلبك، ولأنجب فيها أبي وعمي وعمّاتي الثلاث.
بل وربما كان ممن تركوا مع عائلاتهم قرى القدس في عام 1948 أو ربما في عام 1967، وربما - ولا يهمّ كيف كان سيحصل ذلك - لانتهى به المطاف في غزة.
لو جرت الأمور كما أراد لها جدي البعيد ذاك، لكنت الآن واحداً من الوجوه التي تمر على الشاشة مصبوغة بالدم، أو لكان جسدي الممتلئ هذا واحداً من الأجساد التي تآكلت تحت الأنقاض وهي تنتظر نجدة لا تأتي».
هكذا، بصدفة صغيرة، كمرض جاء في موعد غير مناسب للسيناريو المرسوم، كوصيّة أب لابنه أن يدفن هنا لا في أي مكان آخر، كعامل بريد بليد، أو كرسالة لم تصل وجهتها.
هكذا، صدفة صغيرة جداً جعلت من الغزيّين (هم) لا (نحن)، وجعلت مني شاهداً على المذبحة لا شهيداً فيها. ولأن الصدفة أقل من القدر، تتجاوز فلسطين بذلك حدود كونها معياراً أخلاقيّاً، أو قضية إنسانية كونيّة عامة، لتمسّنا -نحن أبناء هذه الجغرافيا الواحدة- بشكل شخصي وفردي. هي قصة كل واحد منا، لولا الصدفة، وثأرها الذي يكبر الآن يوماً بيوم هو ثأرنا الشخصي، ثأرنا كلنا، برغم أنف الصدفة.