على عكس الجهود التي يبذلها الاتحاد الأوروبي للحد من تدفّق المهاجرين واللاجئين من أفريقيا، عبر توقيع اتفاقيات شراكة مع دول شمال أفريقيا لدعم النشاط الاقتصادي في تلك الدول، ورفع مستوى قوات حرس الحدود وقوات الحرس البحرية، تشكّل القضية السورية حالة منفردة؛ إذ يصرّ الاتحاد على الإبقاء على الوضع الحالي، برغم التدني المستمر لأوضاع النازحين واللاجئين من سوريا، في انخراط مباشر في المشروع الأميركي، يتوازى مع تخفيض حجم الدعم المقدّم لهؤلاء، والذي يزيد من سوداوية المشهد الإنساني. ووسط الإصرار الذي يعلنه المسؤولون الأوروبيون في هذا الصدد، تجري بعض المحاولات المنفردة لعدد من دول الاتحاد لصياغة آلية جديدة تهدف إلى تخفيف الضغط المستمر الذي تسبّبه أزمة اللجوء على الدول التي تستقبل اللاجئين، خصوصاً منها الهشّة اقتصادياً، ما يفسر الاجتماع الذي عقده مسؤولون من النمسا والتشيك وقبرص والدنمارك واليونان وإيطاليا ومالطا وبولندا، والإعلان عن بيان مشترك في ما بينهم قبيل عقد اجتماع بروكسل حول سوريا بنسخته الثامنة. وخلال اللقاء الذي عُقد قبل أيام، حرصت هذه الدول على الإعلان عن خطة واضحة تدعو إلى إعادة تقييم من شأنها أن تؤدي إلى «طرق أكثر فعالية للتعامل» مع اللاجئين السوريين الذين يحاولون الوصول إلى بلدان الاتحاد الأوروبي. وجاء في بيان الاجتماع الذي استضافته قبرص، بعد نحو أسبوعين على زيارة قام بها وزير الدولة للشؤون الخارجية التشيكية، راديك روبش، إلى سوريا، حيث أجرى لقاء مع وزير الخارجية، فيصل المقداد، بأكثر من صيغة، أن ثمّة حاجة إلى تقييم المناطق الآمنة في سوريا، بهدف الحد من موجات اللجوء، خصوصاً بعد زيادة عدد القوارب التي انطلقت من لبنان نحو السواحل القبرصية في الآونة الأخيرة، والتي تسببت بعضها بكوارث إنسانية كبيرة. ويتقاطع هذا الأمر مع النشاط العربي أخيراً، ضمن «المبادرة العربية»، والتي تسعى إلى تمهيد الطريق عبر عمليات إعادة الإعمار (التعافي المبكر)، أمام عودة اللاجئين إلى مناطقهم، ما يعني الحد من الأزمة التي تسبّبت بها موجات النزوح واللجوء نحو الدول المستضيفة، وإيجاد مسار آخر، غير مسار الاتحاد الأوروبي، للنازحين واللاجئين الذين ضاقت بهم الأحوال، عبر إعادتهم إلى حياتهم السابقة. والجدير ذكره، هنا، أن «إعادة التقييم» التي تدعو الدول الأوروبية الثماني إليها لا تعني التخلص من اللاجئين الذين وصلوا إلى أوروبا فعلاً، وهي الخطوة التي أقدمت عليها بريطانيا عبر تجهيز معسكرات في راوندا لنقل اللاجئين إليها.
لم يخرج مؤتمر بروكسل بنتيجة مرضية للدول الثماني التي دعت إلى «إعادة التقييم» أو حتى للدول المستضيفة للاجئين

غير أن مؤتمر بروكسل، الذي ضمّ حشداً كبيراً من المسؤولين في الاتحاد الأوروبي والدول المحيطة بسوريا إلى جانب الولايات المتحدة وأستراليا وغيرهما، لم يخرج بنتيجة مرضية للدول الثماني أو حتى للدول المستضيفة؛ إذ جاءت تصريحات المسؤولين فضفاضة، وهي تحدّثت عن تعهدات مالية (حوالي 8.1 مليارات دولار، أكثر من ثلثيها قروض، والثلث المتبقي عبارة عن منح) لمساعدة اللاجئين والنازحين والدول التي تستضيفهم، بالتوازي مع تمديد العقوبات الأوروبية المفروضة على سوريا لعام إضافي، والإعلان عن رفض مقترح إعادة تقييم الأوضاع في سوريا وتحديد المناطق الآمنة. ويمثّل ذلك رضوخاً للموقفين الفرنسي والألماني، وتوافقاً مع الموقف الأميركي المعلن والذي يدعو إلى عرقلة أي مساع تنهي الأزمة الإنسانية القائمة، الأمر الذي أثار حفيظة الدول المستضيفة للاجئين، بما فيها تركيا، وهي أكثر الدول التي استفادت من أزمة هؤلاء عندما استعملتهم سلاحاً بوجه أوروبا، وتمكّنت من ابتزاز دول الاتحاد بمبلغ يفوق الستة مليارات يورو، إلى جانب تمرير مصالح سياسية واقتصادية. وفي هذا السياق، أعلن ممثل تركيا الدائم لدى الاتحاد الأوروبي، فاروق قايمقجي، أن الوقت قد حان لجميع الجهات الفاعلة من أجل إعادة ترتيب مواقفها لإيجاد حل شامل للوضع في سوريا، عبر أربعة محاور رئيسية أبرزها تهيئة الظروف اللازمة في جميع أنحاء البلاد لعودة السوريين الطوعية والآمنة والكريمة، واستمرار المساعدات الإنسانية من دون عوائق.
وفتح المؤتمر الذي وصلت مجمل تعهداته المالية، خلال نسخه الماضية والحالية إلى نحو 60 مليار يورو، الباب أمام أسئلة عديدة حول مصير هذه التعهدات ومدى الجدية في تقديمها، خصوصاً أن غالبيتها بقيت حبراً على ورق أو مواد استهلاكية إعلامية من دون أن تلتزم هذه الدول بها، الأمر الذي انعكس بوضوح عبر تقليص منظمات الأمم المتحدة معظم برامجها، وإنهاء عدد كبير منها، سواء في الداخل السوري أو في دول الجوار. ووضع ذلك قضية اللاجئين السوريين ضمن دائرة مفرغة، عنوانها منعهم من العودة إلى بلادهم، أو توفير السبيل لذلك، ومنعهم من العبور نحو دول أخرى، ما يشبه حكماً بالإعدام البطيء. ويأتي هذا وسط صعود مستمر للعنصرية النامية ضدهم في الدول التي تستضيفهم، وعلى رأسها تركيا، التي تقوم بعمليات ترحيل قسرية لهم نحو مناطق الشمال السوري، الذي بات مكتظاً بالمخيمات العشوائية البدائية الخالية من أي مقوّمات للحياة، ولبنان الذي يشهد بين وقت وآخر هجمات على اللاجئين.
ووسط هذا التشبيك الأميركي - الأوروبي بين الملفين الإنساني والسياسي في سوريا، وفرض عقوبات جديدة على البلاد التي مزّقتها الحرب، تشير تقديرات «البنك الدولي» الأخيرة إلى أن نحو 27 % (5.7 ملايين نسمة) من السوريين يعيشون في فقر مدقع، ما يعني بشكل أو بآخر اتساع الأزمة الإنسانية، ومعها اتساع محاولات قسم من سوريّي الداخل السفر نحو أوروبا، الأمر الذي يشكّل مفارقة تحاول الأصوات الداعية إلى استمرار الظروف الحالية تجاهلها.