منذ بداية الحرب السورية، برزت عدّة محاولات إقليمية ودولية لتحييد المرافئ السورية واللبنانية بشكل كامل عن مشهد التجارة الشرق الأوسطية، وتحويلها إلى مجرد مرافئ محلية معنية بتأمين مستوردات دولها فقط من دون أي نشاط إقليمي. كانت البداية مع المساعي الأميركية والإسرائيلية لتعويم مرفأ حيفا، حتى يكون بمنزلة بوابة الخليج والعراق على المتوسط؛ ورغم أن هذا المشروع فشل في بعده الإستراتيجي، إلا أن جميع البيانات الإحصائية التجارية الإقليمية تؤكد زيادة معدلات نمو تجارة الترانزيت عبره، وهو ما يؤكد حدوث اختراق إسرائيلي ما. عقب ذلك، عاد الحديث مجدداً عن مشروع حفر قناة تربط البحرَين الميت والمتوسط، وصولاً إلى مشروع «الممر العظيم»، الذي أعلن عنه العام الماضي، والهادف إلى إنشاء طريق تجاري منافس لطريق الحرير الصيني، يربط الهند بمرفأ حيفا في الأراضي الفلسطينية المحتلة مروراً بالإمارات والسعودية والأردن. أما على الطرف المقابل، فسُجّلت محاولات سورية - عراقية - إيرانية، طوال السنوات السابقة، لتفعيل التعاون الاقتصادي في ما بين تلك الدول، من أهمها إعادة إحياء مشروع الربط السككي، إذ يتحول مرفأ طرطوس إلى نافذة بحرية اقتصادية لكل من بغداد وطهران وما بعدهما، إلا أن التواجد الأميركي في منطقة التنف السورية أعاق ذلك الربط وفقاً لما كان مخططاً له منذ ما قبل الحرب، وأجبر دمشق على التفكير في مسارات أخرى أكثر كلفة. وحتى مشروع «طريق التنمية» العراقي، والذي هو اليوم بمنزلة حدث اقتصادي بارز في المنطقة، فقد كان يستهدف، في نسخته الأساسية إحداث تعاون اقتصادي مباشر بين حوالى 11 دولة إقليمية هي: العراق، تركيا، سوريا، إيران، الكويت، الأردن، السعودية، الإمارات، قطر، سلطنة عمان، والبحرين. غير أن جملة تطورات سياسية لاحقة تسببت في إعادة تموضع للمشروع، ليضحي مخططاً عراقياً - تركياً - إماراتياً - قطرياً، يعزل بوضوح مصالح دول عدة أخرى، أبرزها الأردن، سوريا، لبنان، إيران، ومصر.
إلا سوريا
قبل حوالى عام، استضافت بغداد مؤتمراً أطلقت عليه «طريق التنمية»، عرضت فيه على ممثلي قطاع النقل في الدول العشر المشار إليها تفاصيل هذا المشروع، الذي من المخطط أن يربط مرفأ الفاو على الخليج العربي، بعد توسعته وتطويره، بتركيا. وبحسب بعض الوثائق العراقية التي حصلت عليها «الأخبار»، فإن المشروع من شأنه أن يحقق للعراق والدول المجاورة تسع مزايا أساسية من أهمها جعل الناتج المحلي الإجمالي العراقي أقل اعتماداً على النفط، تطوير شبكات السكك الحديد والطرق السريعة وتحديثها، زيادة معدلات التوظيف وتحسين ظروف الحياة للعراقيين، السماح بحرية التنقل وحركة البضائع والركاب بين الدول المجاورة، وتعزيز التكامل الاقتصادي والاجتماعي لدول المنطقة.
لكن بحسب العرض الذي قدمه المسؤولون العراقيون لمسار الطريق ومكوناته وجدواه الاقتصادية والفنية، شعر الوفد السوري بأن بلاده ستكون مبعدة تماماً عن المشروع خاصة، والتجارة الشرق متوسطية عامة، رغم أهمية موقعها الجغرافي على خريطة تجارة الترانزيت، من جهة، والدور الذي لعبته طوال عقدين ونصف عقد من الزمن كنافذة للعراق على المتوسط منذ استئناف العلاقات الاقتصادية بين البلدين أواخر تسعينيات القرن الماضي، من جهة ثانية. ودفع ذلك الوفدَ إلى تقديم مقترح يتضمن عبور «طريق التنمية» عبر سوريا، عبر ربط ميناء الفاو مع الموانئ السورية، ولا سيما في ظل وجود مشروعات عدة للربط البري والسككي بين البلدين، بوصف الخيار المذكور أكثر جدوى اقتصادية للعراق ولجميع الدول المستفيدة، بالنظر إلى أن المسافة المباشرة بين كل من «الفاو» في جنوب العراق وميناء مرسين تبلغ حوالى 2200 كم، منها 1200 كم ضمن الأراضي العراقية، في حين أن المسافة المباشرة من «الفاو» إلى ميناء طرطوس تبلغ حوالى 1300 كم، فضلاً عن «إشكالية التضاريس الجغرافية الصعبة والوعرة التي ستواجه المشروع عند الحدود الشمالية للعراق، مقارنة مع المسارات البديلة في حال عبوره الأراضي السورية».
المقترح السوري لم يلقَ، رغم أهميته الاقتصادية والفنية، آذاناً صاغية لدى المسؤولين العراقيين


على أن المقترح السوري لم يلقَ، رغم أهميته الاقتصادية والفنية، آذاناً صاغية لدى المسؤولين العراقيين، والذين برر بعضهم للوفد السوري موقف حكومته بما تتعرض له الأخيرة من ضغوط سياسية خارجية كبيرة؛ فالولايات المتحدة قالت صراحة للعراقيين إن في إمكانهم إدخال من يريدون من الدول في «طريق التنمية» باستثناء سوريا، مهددةً في حال إدخالها بفرض عقوبات مباشرة على المشروع. كما أن تركيا وضعت الحكومة العراقية أمام معادلة جديدة قوامها: مرور المياه مقابل مرور «طريق التنمية» في أراضيها، الأمر الذي جعل الحكومة العراقية تسير قدماً في المشروع بشكله الراهن المعلن، رغم كلفته الاقتصادية المرتفعة مقارنة مع بديله السوري. إذ تؤكد بعض الدراسات أن كلفة المخطط المعلنة، والبالغة حوالى 17 مليار دولار، ستكون مرشحة للارتفاع مع مرور الوقت لتصل إلى أكثر من 20 مليار دولار. وبحسب مصادر سورية مطّلعة تحدثت إلى «الأخبار»، فإن هذا المشروع بطاقته الاستيعابية التي ستصل سنوياً إلى حوالى 38.2 مليون طن، وحوالى 13.8 مليون راكب سنوياً، يمكن أن يحول المرافئ السورية واللبنانية إلى مجرد مرافئ محلية «ميتة»، مقابل انتعاش المرافئ التركية التي كانت مهدَّدة بفعل «الممر العظيم»؛ كما أن المرافئ الإيرانية وقناة السويس المصرية ستكون هي الأخرى معرضة للضرر جراء محاولة عزلها بشكل مباشر أو غير مباشر.

سوريا وتركيا معاً
إلى جانب الشكوك المتعلقة بالتمويل، فإن ما قد يتسبب في عرقلة تنفيذ المشروع وتشغيله، وفقاً لدراسة الجدوى الاقتصادية الموضوعية، هو العامل الأمني في كل من العراق وتركيا. ففي العراق، لا تزال خلايا تنظيم «داعش» تنشط في مناطق عدّة من البلاد، كما أن وجود عناصر «حزب العمل الكردستاني» على الحدود العراقية - التركية، من شأنه أن يشكل تهديداً كبيراً له، ولا سيما أن الخط البري والسككي سيكون مضطراً إلى المرور في بيئة جغرافية صعبة (شمال العراق)، تشكل بحسب التصريحات التركية مركزاً لقيادات الحزب. ويضاف إلى ما تقدّم، أن استمرار المواجهة التركية - الكردية يعني أن مرافق المشروع ومحطاته قد تشكل هدفاً للهجمات الكردية. لكن حتى سوريا تواجه وضعاً أمنياً خاصاً في مناطق البادية، حيث لا تزال تنتشر بقايا خلايا لتنظيم «داعش»، تعمل تحت أنظار القواعد الأميركية غير الشرعية في البلاد. وهذه الأخيرة هي أيضاً بمنزلة عائق فيما لو تم تعديل مسار «طريق التنمية» ليسلك منطقة الجزيرة السورية في اتجاه الحدود التركية، بغية تجاوز التضاريس الجغرافية الصعبة في شمال العراق، وإبقاء تركيا ضمن المشروع كنوع من التوازنات التي قد تلجأ إليها بغداد.