دخلت الحرب في سوريا عامها الرابع عشر على وقع أزمات إنسانية متفاقمة، ووسط حالة عجز أممية، وتراجع الاهتمام العالمي بالحدث السوري الذي لم يعد مغرياً لكثير من وسائل الإعلام، وكثير من الدول التي استثمرت على مدار السنوات الثلاث عشرة الماضية، كل ما يمكنها استثماره في هذه الحرب. وبعد تلك السنوات الطويلة، تظهر خريطة السيطرة، اليوم، استمرار تمزيق سوريا بين مشاريع مختلفة؛ ففي الشمال الشرقي من البلاد، تستمر الولايات المتحدة في دعم «الإدارة الذاتية» التي يقودها الأكراد (قوات سوريا الديموقراطية – قسد)، الذين يسيطرون على منابع النفط السورية، وإحدى أغنى المناطق السورية في القطاع الزراعي. ورغم ذلك، تبدو الأوضاع الإنسانية والمعيشية في المناطق المشار إليها متدنية إلى حدود قصوى، سواء بسبب تحويل مواردها نحو استثمارات خاصة، عبر شبكات تهريب النفط والقمح، أو بسبب القصف التركي المستمر الذي يستهدف البنى التحتية، بما فيها من منشآت طبية وخدمية وغيرها هناك، الأمر الذي يتحمّل وزره، في المحصّلة، المواطنون الذين يرزحون تحت طبقات متعددة من الفقر وانعدام سبل العيش.وفي الشمال والشمال الغربي من البلاد، تتقاسم فصائل عديدة مختلفة الأيديولوجيات السيطرة، وسط صراعات مستمرة في ما بينها لإحكام قبضتها على ريف حلب وبعض مناطق ريف الرقة، تحت عباءة «الحكومة المؤقتة» المنبثقة عن «الائتلاف» المعارض، الذي ينشط من إسطنبول التركية. وفي المقابل، يخوض أبو محمد الجولاني، زعيم «هيئة تحرير الشام» (جبهة النصرة - فرع تنظيم القاعدة السابق في سوريا) معارك جديدة مع «رفاق دربه» للسيطرة على إدلب، حيث بنت الفصائل «الجهادية» إمارة تحاول تركيا، التي تتحكم بالشمال والشمال الغربي من البلاد وتعمل على تتريكه، تسويقها على أنها معتدلة. وعلى خط مواز، تحاول الولايات المتحدة تجذير مشروع مواز لـ«الإدارة الذاتية» في جنوب البلاد، عبر الاستمرار في إنشاء ودعم فصائل عربية، تقوم من جهة بحراسة أكبر قواعدها على الأراضي السورية (قاعدة التنف عند المثلث الحدودي مع العراق والأردن)، ومن جهة أخرى تؤسّس لموطئ قدم لها في منطقة مهمة تشرف على ثلاث دول، وتحاول قطع الطريق أمام طرق التواصل والإمداد للمحور السوري - العراقي - الإيراني - اللبناني، أو ما يُطلق عليه «محور المقاومة».
أما في مناطق سيطرة الحكومة السورية، فتبدو الأوضاع شديدة التعقيد، في ظل استمرار العقوبات الأميركية - الأوروبية، والتي تعمل واشنطن على تشديدها بشكل مستمر، لتشمل مختلف جوانب الحياة، بما فيها الصناعات الدوائية، والمحروقات والقطاعات الزراعية وغيرها، الأمر الذي تسبب، بالإضافة إلى عوامل تراكمية أخرى، بخلق ظروف معيشية قاسية على السوريين، الذين بات يعيش أكثر من 90% منهم تحت خط الفقر. كذلك، تسببت الحرب المستمرة بنزوح ولجوء نحو نصف السكان، وفق بيان أصدره الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، قبل أيام، في ظل استمرار انسداد آفاق الحل جراء استمرار وضع العقبات في طريقه، سواء عبر فرض القطيعة والحصار السياسي والاقتصادي، أو بسبب منع أي خرق يفتح الباب أمام عودة اللاجئين والنازحين إلى بيوتهم «من دون ثمن سياسي» تطلبه الولايات المتحدة، وفق تصريحات عديدة ومتكررة لمختلف ساستها. أيضاً، أشار بيان غوتيريش إلى أن «3 من كل 4 أشخاص يحتاجون إلى الإغاثة» في سوريا، وأن «أكثر من نصف السكان يعانون من الجوع»، وذلك «في وقت انخفض فيه تمويل الجهود الإنسانية إلى أقل مستوياته على الإطلاق»، وخصوصاً من الأميركيين وحلفائهم في «الاتحاد الأوروبي»، الذين خفّضوا التمويل إلى أدنى حدوده، للعام الثاني على التوالي، في ظل انشغالهم بالحرب في أوكرانيا، ودعم إسرائيل في حرب الإبادة التي تشنها على الفلسطينيين في قطاع غزة.
تقديرات «برنامج الغذاء العالمي»: 2.6 مليون شخص في سوريا سيكونون معرّضين لخطر الجوع في العام الجاري


وفيما أدّى تخفيض التمويل إلى توقف برامج عديدة لتقديم المساعدات للسوريين، وخصوصاً أولئك الذين يعيشون في مئات المخيمات المنتشرة قرب الشريط الحدودي مع تركيا، انسدّت أمام هؤلاء الطرق، في ظل الإغلاق المتشدد للحدود التركية، ومنع الفصائل، وعلى رأسها «هيئة تحرير الشام» فتح أي قنوات تواصل مع مناطق سيطرة الحكومة أو السماح لمن يرغب بالعودة بذلك. وبهذا، أصبح السوريون فعلياً شبه سجناء في هذه المخيمات التي لا تتوافر فيها أدنى سبل العيش، فيما تزداد حياتهم مأساوية مع تخفيض المساعدات التي يتم إدخالها عبر تركيا، بعد أن منحت دمشق رخصة للهيئات الأممية لإدخالها عبر ثلاثة معابر مع تركيا (باب الهوى، باب السلامة والراعي).
وفي السياق، أعلن ممثل ومدير «برنامج الأغذية العالمي» (WFP) في سوريا، كينيث كروسلي، مطلع شهر شباط الماضي، أن «الاحتياجات التشغيلية لبرنامج الغذاء العالمي لعام 2023 كان من المقرر أن تصل إلى 23.5 مليار دولار، في حين بلغ التمويل الذي وصل خلال عام 2023 نحو 10 مليارات دولار فقط، ما يترك لنا فجوة تمويلية تاريخية تبلغ حوالي 60%». وإذ أشار إلى أن هذه الأزمة أجبرت «البرنامج» على تقليص حجم عمليات المساعدة، وإنهاء أكبر برنامج يخدم الأسر السورية، فهو أكّد الحاجة إلى «ما يقرب من 1.5 مليار دولار أميركي للوصول إلى 9 ملايين شخص يعانون من انعدام الأمن الغذائي»، مشيراً إلى عدم «التمكن من الوصول سوى إلى 5.5 ملايين شخص حتى تموز 2023، ثم 3.2 ملايين شخص حتى نهاية العام الماضي»، وسط عدم تلقّي «سوى 35% من التمويل المطلوب».
ويأتي تخفيض تمويل برامج المساعدات، واستمرار العقوبات وتشديدها، في وقت يقدّر فيه «الغذاء العالمي» أن 12.9 مليون شخص في سوريا سيعانون من انعدام الأمن الغذائي في عام 2024، فيما سيكون 2.6 مليون شخص آخرين معرّضين لخطر الجوع. بالإضافة إلى ذلك، هناك ما يُقدر بنحو 29% زيادة في عدد الأشخاص الذين يعانون من انعدام الأمن الغذائي الشديد والذين يعيشون في المخيمات، مقارنة بالعام الماضي. على أن ظروف اللاجئين خارج سوريا في دول الجوار، لا تختلف كثيراً، ذلك أنهم يعيشون بدورهم ظروفاً تزداد مأساويتها، سواء في تركيا التي تشهد تصاعداً لخطاب الكراهية ضدهم، وعمليات ترحيل قسرية مستمرة وفق برنامج يهدف إلى التخلص من 1.5 مليون سوري عبر احتجازهم ورميهم في الشمال والشمال الغربي من البلاد، أو في الأردن ولبنان، اللذين يعانيان أزمة اقتصادية، فيما فشلت جميع محاولاتهما في فتح الباب أمام عودة اللاجئين في ظل رفض الولايات المتحدة ذلك، ومنع أيّ مشاريع إعادة إعمار للبنية التحتية تفسح المجال أمام العودة، بالتوازي مع تخفيضات مستمرة للمساعدات التي تقدّمها مفوضية اللاجئين، وآخرها تخفيض بنسبة 25% بالنسبة إلى اللاجئين السوريين الموجودين في الأردن، خارج المخيمات، بدءاً من شهر نيسان المقبل.