في تعاطيها مع الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية المتدهورة اليوم، لا تَخرج معظم الإجراءات المتَّخذة من قِبَل الحكومة السورية عن كونها «ردّات فعل»، هدفها ضبط هذا التدهور أو الحدّ من خسائره فقط، وهو ما يفسّره كثيرون بضعف أداء الفريق الحكومي، وعدم قدرته على اجتراح حلول مبتكرة أو غير تقليدية. لكن في المقابل، ثمّة مَن يعتقد أن ما تعانيه البلاد حالياً لا يمكن مواجهته، بعيداً من طريقة «ردّات الفعل»، بالسياسات والإجراءات نفسها التي كانت معتمَدة قبل حوالي عقدين أو ثلاثة عقود، ولا سيما في ما يتعلّق بدور الدولة في المجالات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. ذلك أن البيئة العامّة، من حيث الإمكانات والموارد وأهلية مؤسّسات الدولة، اختلفت تماماً عن السابق. كما أن الظروف الإقليمية والدولية تغيّرت هي الأخرى؛ ففي الماضي، فرضت التجربة الاشتراكية نفسها على البلاد كمنطلق أيديولوجي للتموضع السياسي، وأما اليوم، فإن الهدف الأساس هو منع انهيار البلاد اقتصادياً. وعلى رغم أن العقود الثلاثة الماضية شهدت إدخال بعض التعديلات على دور الدولة في إطار موجات الإصلاح والانفتاح، إلّا أنها لم تصل إلى مرحلة إعادة هيكلة الدور المذكور وعصرنته كاملاً، في ما يمكن عزوه إمّا إلى الفشل المؤسّساتي في استشراف ما قد ينجم عن استمرار الدولة في ممارسة مهامها التقليدية من مشكلات وصعوبات، أو الخوف من تبعات السير في عملية إعادة هيكلة تلك المهام، لجهة موقف الأحزاب والقوى السياسية والاجتماعية والمدنية، المتخوّفة من أن تؤدّي هذه العملية إلى انسحاب الدولة من الحياة العامة.
إعادة هيكلة شاملة
غالباً ما يُختصر الحديث عن دور الدولة في سوريا بالجانب الاقتصادي فقط، فيما عملياً هذا الدور امتدّ ليشمل على مدار العقود الستّة الماضية مختلف نواحي الحياة اليومية، وذلك في إطار ما عُرف بمصطلح «الدولة الأبوية». وقد أسهم الدور المذكور، لسنوات عدّة، في توفير الخدمات شبه المجانية لعموم المواطنين، وتوفير الحدّ الأدنى من احتياجات الطبقات الفقيرة وصاحبة الدخل المحدود، فضلاً عن دعم الأنشطة الاجتماعية والثقافية، التي وإن كانت «مؤدلجة»، إلّا أنها وفّرت مناخاً ساعد بشكل ما شريحة اجتماعية واسعة على العمل وتحقيق مصالحها. وفي السياق، يَعتبر الأستاذ في كلية الاقتصاد في جامعة دمشق، عابد فضلية، أن «الدور الاقتصادي للدولة السورية ذو طبيعة متميّزة تختلف عن الدور السائد في معظم دول العالم، ولنتذكّر ابتداع مصطلح "الطريق الثالث إلى الاشتراكية" لتوصيف النظام السياسي والاقتصادي والاجتماعي في سوريا»، مضيفاً أن «دور الدولة لدينا تُراوح ما بين "الدولة المتدخّلة" إيجاباً لصالح الشرائح الضعيفة والكادحة وذوي الدخل المحدود، وبين "الدولة الراعية"، والدولة "ذات الاقتصاد الحر المقيَّد"». ويلفت فضلية، في حديث إلى «الأخبار»، إلى أن هذا الدور «تَغيّر أو اعتدل سابقاً بين فترة تنموية وأخرى بحسب الظروف المحيطة وتحدّيات الواقع، كما هو الأمر منذ بداية عام 2012 وحتى تاريخه، حيث ارتبط بما تقتضيه ظروف وضغوط الواقع القاسية الداخلية والخارجية من جهة؛ وإمكانات الدولة المادية وقدرتها على التدخل الإيجابي والدعم الاجتماعي من جهة أخرى».
ثمّة اتفاق على أن المرحلة الحالية تمثّل التوقيت المناسب لطرح فكرة إعادة هيكلة دور الدولة على النقاش العام


بناءً عليه، يتمحور جزء كبير من النقاش الدائر حالياً حول الأدوار الجديدة المطلوب من الدولة النهوض بها، سواءً على الصعيد الاقتصادي، أو الاجتماعي، أو حتى الثقافي، وفقاً للإمكانات والموارد المتاحة، وللأهداف المراد تحقيقها. وفي هذا المجال، يعتقد الأستاذ في كلية الاقتصاد في جامعة دمشق، غسان إبراهيم، أن «المطلوب اليوم، وقبل الغد، العمل على إعادة هيكلة دور الدولة، لا بل إن هذا الأمر كان يجب أن يحدث قبل سنوات. وهذه الهيكلة تحدث فقط من خلال تطبيق القوانين والتشريعات والأنظمة، فمفهوم الدولة اليوم ليس أكثر من قيامها بالإدارة والتخطيط والتنظيم، بمعنى آخر ألّا تحلّ الدولة بأيّ شكل من الأشكال محلّ الأفراد أو تُزاحمهم في ما يتعلّق بالأنشطة الاقتصادية أو الاجتماعية أو الفكرية». ويوضح إبراهيم، في تصريح إلى «الأخبار»، أن «تدخّل الدولة في الاقتصاد لا يتمّ من خلال ملكيتها للمشاريع والمنشآت، وهو الشكل الفظّ والبدائي، وإنّما من خلال التشريعات والقوانين والأنظمة، وهو الشكل الراقي والعصري، بحيث يقتصر حضورها أو تدخّلها المباشر على بعض المحاصيل الاستراتيجية كالقمح مثلاً، والمشروعات الصناعية التي لها علاقة بالأمن الوطني. باختصار، على الدولة ألّا تكون ربّ عمل على غرار الأفراد». وفي الاتّجاه نفسه، يَعتبر الباحث الاقتصادي، زكي محشي، أن «دور الدولة الأساسي هو العمل على تهيئة الظروف المناسبة التي تعزّز من قدرة الأفراد على ممارسة دورهم الاقتصادي والاجتماعي والفكري بشكل فعّال ومنتج يخدم أهداف هؤلاء الأفراد، كما يخدم الصالح العام الذي يسعى لتحقيق الرفاه للجميع من دون استثناء. كما يجب على أجهزة الدولة العمل بشكل تدريجي، ووفق استراتيجية واضحة، على إعادة بناء "الثقة" بها بدلاً من هدر الموارد على تعزيز "هيبتها"؛ فالثقة وحدها هي التي تعيد إلى الدولة فعاليتها واستقرارها المستدام بعيداً عن الدور الأبوي الوصائي».

التوقيت المناسب
في كثير من اللجان التي شُكّلت لمناقشة اقتراحات الإصلاح الاقتصادي، لم يكن هناك خلاف على أن الدولة لم تَعُد معنيّة بإنتاج سلع استهلاكية خفيفة، وأن سياسة التوظيف الاجتماعي كانت أحد أسباب تراجع إنتاجية المؤسّسات العامة، وأن آليات الدعم الاجتماعي المطبَّقة منحازة إلى الأغنياء أكثر من خدمتها للفقراء وأصحاب الدخل المحدود. إنّما كلّ ذلك وغيره بقي محفوظاً ضمن تقارير ومذكّرات، وحتى عندما حاولت بعض الحكومات تغيير جانب من هذا الوضع، مُنيت بالفشل جرّاء عدم نضوج مشاريعها وضعف إجراءاتها وقواعد بياناتها، الأمر الذي خلق حالة من الهلع لدى المواطنين عند سماعهم بأيّ مشروع حكومي يستهدف تغيير الواقع الذي اعتادوا عليه طوال العقود السابقة. ويطرح ما تَقدّم تساؤلات عن إمكانية نجاح عملية استبدال أو تطوير الدولة لأدوارها في هذه المرحلة؛ فمن جهة، وصلت الأوضاع المعيشية والاجتماعية إلى حافّة خطرة، ومن جهة ثانية، فإن ظروف الحرب، التي فاقمت من المشكلة، قد لا تتيح إنجاز المطلوب وفق ما هو مخطَّط له.
على أيّ حال، ثمّة اتفاق على أن المرحلة الحالية تمثّل التوقيت المناسب لطرح فكرة إعادة هيكلة دور الدولة على النقاش العام، وصولاً إلى سيناريوات تحقّق المصلحة الوطنية. وفي هذا الإطار، يرى محشي أنه «على الرغم من التدهور الرهيب على الأصعدة كافة في سوريا، فإن الوقت الحالي هو المناسب لمناقشة مفهوم الدولة ودورها، شريطة أن تمتلك المؤسّسات الحالية الرغبة في التغيير وأن تشارك في هذه المناقشة من دون أن تقوم بالتوجيه أو الوصاية». ويستعين إبراهيم، بدوره، بالمثل الصيني القائل: «إذا وقعتَ في أزمة فإنه يمكنك أن تحوّلها إلى فرصة»، ليؤكد أن «اليوم هو التوقيت المناسب لكي تستكشف طاقات الأفراد والشركات من جميع القطاعات، وكيفية استثمارها لمعالجة الأزمة الاقتصادية وتداعياتها الاجتماعية أو السياسية أو الفكرية». وفي الاتجاه نفسه، يَعتبر فضلية أن «الرؤية الممكنة والأكثر واقعية وموضوعية تتلخّص في ألّا تتخلّى الدولة عن دورها الاقتصادي، الاجتماعي، المعيشي، الرقابي، الرعائي، الأبوي، وذلك بناءً على متطلّبات واقعنا الاستثنائي الصعب، لكن بعيداً من النمطية في التفكير والتشريع واتّخاذ القرارات ووضع التعليمات، وبعيداً من بيروقراطية العقل الوظيفي الإجرائي، وإنّما بناءً على رؤى واستراتيجيات وخطط حكومية كلّية شاملة، مترابطة، منسجمة قابلة للتحقيق».